الهجرة.. كيف أصبحت أهم قضايا دولة المهاجرين؟

الهجرة.. كيف أصبحت أهم قضايا دولة المهاجرين؟

مضيعة للوقت.. هكذا وصف الرئيس الأميركي دونالد ترامب المحادثات مع الكونغرس بشأن التوصل إلى حل لمعضلة بناء سور على الحدود مع المكسيك، وجاء ذلك في حوار له مع صحيفة نيويورك تايمز.

وتشهد أروقة الكونغرس حاليا مفاوضات بلا توقف للتوصل لحل قبل انقضاء مهلة ثلاثة أسابيع تنتهي يوم 14 من الجاري منحها الرئيس للديمقراطيين. وشهدت الولايات المتحدة أطول غلق جزئي لحكومتها الفدرالية (35 يوما) بسبب الخلاف بين ترامب والديمقراطيين على بناء السور.

وتعد قضية الهجرة الأميركية شديدة التعقيد رغم اختزالها مؤخرا بقضية بناء السور. ومن ناحية تستغرق القضايا المعروضة أمام القضاء شهورا طويلة أو سنوات للنظر فيها. ومن ناحية أخرى يستطيع طالبو اللجوء البقاء شرعيا لسنوات حتى يتم البت بطلباتهم. كما أن هناك معضلة الأطفال الذين قدموا مع عائلاتهم بطرق غير نظامية ولا يعرفون وطنا إلا الولايات المتحدة ويطلق عليهم “الحالمون”.

وتتعالى أصوات مطالبة بإلغاء التعديل الدستوري رقم 14 الذي يقضي بمنح الجنسية تلقائيا لأي طفل يولد داخل الولايات المتحدة بغض النظر عن جنسية والديه وشرعية وطريقة وصولهما إلى البلاد.

هجرة قديمة وحديثة
تأسست الدولة الأميركية على يد مهاجرين أوروبيين قبل قرنين ونصف القرن. ومنذ ستينات القرن الماضي أصبحت البلاد قبلة المهاجرين من مختلف أركان العالم بصورة مستمرة.

وطبقا لبيانات معهد سياسات الهجرة بواشنطن لعام 2017، يعيش خُمس المهاجرين بالعالم في الولايات المتحدة، إذ يقطنها حاليا 45 مليون مهاجر أو 14% من سكانها البالغ عددهم 325 مليون نسمة. ويقصد بالمهاجر الشخص الذي ولد خارج أميركا وانتقل للعيش والاستقرار فيها.

ومثل وصول ترامب إلى البيت الأبيض معتمدا على حملة انتخابية مناوئة للمهاجرين نقطة مفصلية في دولة ومجتمع ينقسمان حول الهجرة، إذ يراها البعض أهم ما يميز بلادهم، ويراها آخرون تحديا كبيرا يجب مواجهته.

وأصبح أهم ما يشغل ويقسم الأميركيين: قضايا الهجرة وعلاقتها بالاقتصاد الأميركي، وقضايا الأمن القومي، ومعدلات الجرائم، وتوافر الوظائف، ودور الولايات المتحدة في القضايا الإنسانية العالمية، في وقت يشهد فيه العالم أعدادا غير مسبوقة من ضحايا التهجير القسري.

ويجدر الفصل بين الهجرة النظامية وغير النظامية، فالأولى لا تعرف الجدل الكبير الذي تعرفه الثانية والذي يرتبط بالأساس بسبل الحد منها ومواجهتها. ومع اختزال قضية الهجرة في رمزية السور الذي يرغب ترامب في بنائه تنفيذا لوعوده الانتخابية خاصة مع بدء إرهاصات انتخابات 2020، يدرك الديمقراطيون أن منح السور للرئيس سيضاعف من فرص فوزه بتلك الانتخابات.

وينقسم المجتمع الأميركي حيال السور، إذ كشف استطلاع حديث للرأي لجامعة كوينيبياك -بين 25 و29 من الشهر المنقضي على عينة من 1004 مواطنين- موافقة 41% على بناء السور في وقت يعارضه 55% منهم.

تكلفة السور
ويطلب ترامب تخصيص 5.7 مليارات دولار لبناء سور يبلغ طوله 230 ميلا (370 كيلومترا) ليضاف إلى سبعمئة ميل (1126 كيلومترا) من الأسوار الفاصلة الموجودة بين الدولتين. وتكشف دراسة لمكتب المحاسبة العامة أن متوسط تكلفة بناء الميل الواحد من السور تقدر بـ 2.8 مليون دولار.

وتمتد الحدود مع المكسيك لما يقرب من ألفي ميل (3218 كيلومترا) الكثير منها يتمثل في موانع طبيعية كانحدارات نهر ريو غراند الحادة على امتداد مئات الأميال بينهما. وترصد دراسة حديثة لمعهد أبحاث الحدود بجامعة واشنطن وجود 52 نقطة عبور، إضافة لثمانية خطوط سكك حديدية و24 جسرا على نهر ريو غراند و17 طريقا بريا سريعا، إضافة لعبارة نهرية.

وتساهم كل تلك الطرق في نقل مئات الآلاف من البشر بين الجانبين يوميا، إضافة لبضائع تقدر قيمتها اليومية بـ 1.68 مليار دولار (حجم التجارة بين الدولتين 615 مليار دولار سنويا). وتخضع كل هذه الطرق والممرات لإشراف وتدقيق أجهزة شرطة الهجرة والجوازات الأميركية.

بين التأييد والمعارضة
ومن أجل دحض حجج الرئيس لبناء السور، يستغل الديمقراطيون بيانات نشرها مؤخرا معهد بيو للأبحاث تشير إلى أنه من بين 11 مليون مهاجر غير نظامي موجودين داخل أميركا، دخل 6.5 ملايين (60%) بطرق غير نظامية عبر الحدود الجنوبية، في حين دخل 5.5 ملايين (40%) بطرق نظامية.

غير أن القوى المحافظة لا تزال تؤمن بجدوى بناء السور. ويُفصّل الباحث جيمس كارافانو من معهد هيرتيغ لموقف ترامب الذي يراه صحيحا، إلا أنه يعتقد أن أسلوب الرئيس يؤثر بالسلب على جوهر سياساته الصائب فيما يتعلق بالهجرة. ويذكر ثلاث نقاط بهذا المضمار:

– لا يعرض ترامب سياساته الجيدة بصورة مقبولة، وهذا أدى لانقسام كبير حولها.

– أفضل طريقة للتعامل مع أمن الحدود ووقف الهجرة غير النظامية هي بناء السور.

– عوامل مثل البقاء بعد انتهاء التأشيرة، وتهريب المخدرات عن طريق المطارات وموانئ الدخول الرسمية، وطلبات اللجوء غير النظامية قضايا هامة، لكنها يجب ألا ترتبط بجدوى بناء السور.

وتشير الدراسة إلى أن الكونغرس بدأ النظر بجدية في قضية الهجرة عام 2006 عندما مرر قانون “السور الآمن” والذي تبعه تركيز على القبض على المهاجرين غير النظاميين عند الحدود وقبل ذوبانهم في المجتمع الأميركي.

وتؤكد أن السور أداة شديدة الفعالية لوقف الهجرة غير النظامية، وتستدل الدراسة على ذلك بوجود الأسوار وامتدادها لمئات الأميال من الحدود، مما أدى لانخفاض كبير في أعداد المهاجرين غير النظاميين.

ومن ناحية مناقِضة للطرح السابق، يطرح توم غاويتز من مركز التقدم الأميركي مقترحات مغايرة لما يطالب به ترامب والمحافظون من خلال مبادرة أطلق عليها “الاستثمار الذكي بأمن الحدود”. وبمقتضاها يتم تحديث نظام الهجرة ويصبح أكثر أمنا من خلال أربع نقاط لا تتضمن بناء سور وهي:

– تعيين المزيد من القضاة للتعامل مع قضايا الهجرة المتأخرة والتي يبلغ عددها أكثر من ثمانمئة ألف حالة وصلت معها فترات الانتظار لمتوسط سبعمئة يوم.

– تحسين البنية التحتية والتكنولوجية في المنافذ البرية والبحرية والمطارات، وبمقتضى تلك التحسينات يمكن مواجهة تهريب المخدرات التي يعاني منها المجتمع الأميركي وتهريب البشر، وتعيين المزيد من ضباط أجهزة مكافحة الهجرة غير النظامية.

– تحسين مستوى الرعاية الصحية بمراكز إيواء المهاجرين، وخاصة بعد وفاة طفل لعدم حصوله على الرعاية المناسبة في ديسمبر/كانون الأول الماضي.

– حل جذري لمشكلة اللاجئين، إذ إن الأغلبية الكبرى ممن يصلون للحدود البرية الجنوبية من دول أميركا الوسطي ممن يسعون للحصول على اللجوء نظرا لتردي الأوضاع الأمنية والاقتصادية في بلدانهم الأصلية.

ماذا بعد؟
يرفض الديمقراطيون بحزم طلب ترامب تخصيص 5.7 مليارات دولار لبناء السور، ولا يريد ترامب التنازل عن طلبه. ومع انعدام أي أفق للتوصل لحل وسط، تزداد التكهنات بحدوث أزمة دستورية كبيرة مع عزم الرئيس إعلان حالة الطوارئ الوطنية عند الحدود الجنوبية، مما يسمح له بالحصول على مخصصات من ميزانية وزارة الدفاع لبناء السور.

ومع حالة الاستقطاب غير المسبوقة بالتاريخ السياسي الأميركي والتي يغذيها انقسام كبير في توازن القوى بين الديمقراطيين أصحاب الأغلبية بمجلس النواب والجمهوريين أصحاب الأغلبية بمجلس الشيوخ، لن يبقى إلا القضاء ساحة وحيدة لتحدي قرار الرئيس والتعامل مع الأزمة الدستورية غير المسبوقة بالتاريخ الأميركي.

الجزيرة