تتقدم الدول اقتصادياً عن طريق إدارتها الحكيمة لثرواتها ومواردها الطبيعية المتجددة وغير المتجددة، وعن طريق استغلالها الأمثل لرأس المال البشري والتكنولوجيا وغير ذلك، ويعتبر النفط كمورد طبيعي سبباً أساسياً لثراء الكثير من الدول. دعنا نحكي عن دولة تحوي احتياطيات نفطية هائلة، حتى أنها تعتبر من الدول التي تحوي أكبر احتياطيات النفط في العالم، ومن بين أكبر عشر دول منتجة للنفط الخام، حيث تنتج ما يساوي 3 مليون برميل نفط يومياً، كما أنها تمتلك تنوع بيولوجي واسع، وطبيعة غنية بالحديد والذهب والألماس، وذات موقع استراتيجي فعلاً، ولكنها أفلست ودخلت في براثن الفقر وتمر حالياً بأسوأ أزمة اقتصادية في العصر الحديث، حتى أن جميع مقومات الحياة انعدمت لدى سكانها مما أدى إلى رحيلهم بشكل جماعي اضطرارياً! إذاً السؤال: هل يكفي أن يكون لدى الدولة احتياطي نفط ضخم حتى تصبح دولة ذات ثراء عريض وينعم سكانها برغد العيش؟
تعد فنزويلا من أغنى دول العالم بالثروات، ويشكل إنتاج النفط حوالي 96 بالمائة من عائداتها. فما الذي أدى بها إلى الإفلاس؟ بداية الحكاية كانت منذ عهد الرئيس الفنزويلي السابق والراحل هوجو تشافيز والذي أعيد انتخابه أكثر من مرة. كان تشافيز رئيساً محبوباً من الفنزويليين ويحظى بتأييد شعبي واسع وذلك بسبب سياساته الاشتراكية والتي كانت تصب في مصلحة الفقراء وتناصرهم، وكان يقوم بتوزيع الأراضي عليهم، وكان مشهوراً بعدائه للولايات المتحدة الأمريكية.
استفحلت الأوضاع وتفاقمت الأزمة في فنزويلا ولم تستطع الحكومة إدارة تلك المباني والمستشفيات والمدارس التي قامت ببنائها بشكل عشوائي في فترة الرخاء وذلك لعدم توفر السيولة المالية
كان تشافيز مقرباً من شعبه، حتى أن لديه برنامج تلفزيوني وإذاعي بعنوان “هالو يا رئيس” يظهر فيه دائماً ويخاطب شعبه ويبث كرهه لأمريكا أيضاً من خلال هذا البرنامج. يقول تشافيز “إن أكبر خطر على كوكب الأرض هو حكومة الولايات المتحدة الأمريكية” ويقول أيضاً عن الاشتراكية: “أنا مقتنع أن الطريق إلى عالم جديد أفضل وممكن ليس الرأسمالية، الطريق هي الاشتراكية”.
ولكن السياسات الاشتراكية التي طبقها تشافيز وسوء الإدارة الاقتصادية والتوزيع والصرف العشوائي والفساد كان السبب الأساس والرئيس لما يحدث في فنزويلا اليوم. ساعد تشافيز الفقراء بسياساته وأسعدهم على المدى القصير، ولكن تأثير هذه السياسات عليهم كان سيئاً بل كارثياً على المدى البعيد!
انتعشت الأوضاع المالية في فنزويلا في فترة ارتفاع أسعار النفط، ورغم عداء تشافيز لأمريكا كانت أمريكا شريك فنزويلا التجاري الأكبر، ومع كثرة إيرادات عوائد النفط قامت الحكومة بصرف تلك الأموال لبناء المدارس والمستشفيات وتوزيع الأراضي بشكل عشوائي ولم تقم بإدارة هذه الأموال وتوزيع إنفاقها بالطريقة الصحيحة، ولم تستثمرها أو تقم بتخزين أي احتياطيات لتدعمها في أوقات الأزمات. وعند حدوث الأزمة المالية العالمية 2008 والتي تعتبر من أسوء الأزمات بعد أزمة الكساد الكبير 1929، تقلبت أسعار النفط وتأثر الاقتصاد الفنزويلي سلباً كباقي الدول التي تعتمد على النفط كمصدر أساسي للدخل.
وكنتيجة لذلك اتجهت الحكومة الفنزويلية إلى الاقتراض خصوصاً من الصين، والتي قبلت إعطاء فنزويلا القروض بضمانات نفطية، والذي يعني أن الصين تستطيع استيراد النفط الفنزويلي مجاناً حتى استيفاء القروض. استفحلت الأوضاع وتفاقمت الأزمة في فنزويلا ولم تستطع الحكومة إدارة تلك المباني والمستشفيات والمدارس التي قامت ببنائها بشكل عشوائي في فترة الرخاء وذلك لعدم توفر السيولة المالية. اهترأت البنية التحتية للقطاع النفطي ولم يعد في قدرة الحكومة إدارة هذا القطاع بكفاءة ايضاُ!
استمرت الأوضاع الفنزويلية بالسقوط والتدحرج ككرة ثلج كبيرة حتى وصلت إلى الأوضاع الحالية. تشير احصائيات الأمم المتحدة إلى أن ما يقارب 3.2 مليون فنزويلي هاجروا من بلادهم هرباً من بؤس المعيشة والفقر المدقع خلال السنوات القليلة الأخيرة. الأوضاع الاقتصادية في فنزويلا أصبحت صعبة جداً ولا يمكنها تحمل التضخم الجامح أكثر من ذلك، حيث وصلت نسبة التضخم الآن إلى 1698488.00 بالمائة بحسب بيانات الموقع العالمي Trading Economics. كما أن أسعار السلع كانت ترتفع بمقدار 100 بالمائة في كل أسبوع من 2018، وكمثال حزين لذلك كوب القهوة الذي كان يباع بـ 0.01 بوليفار في 2016 وصل سعره إلى أكثر من 400.000 بوليفار الآن!
وفي 2019، يتوقع خبراء صندوق النقد أن تتعرض فنزويلا لانكماش أشد من المتوقع لها في هذه السنة، وبعد أن كانت الدولة الأغنى في أمريكا اللاتينية، أصبحت فنزويلا القصة الطويلة الحزينة لانهيار الاقتصاد وانتشار الفقر والفساد!