عرضت قناة «فرانس 24» منذ أيام حواراً مع سيدة فرنسية داعشية، استسلمت أو تحت سيطرة قوات سورية الديموقراطية، وذكرت هذه السيدة أنها تود قضاء عقوبتها التي صدرت ضدها في بلدها بالسجن عشر سنوات، كما ذكرت أن زوجها المصري والذي تعرفت عليه في سورية ويعمل في الحقل الطبي، قرر مواصلة ما يفعله حتى الموت لرفضه أن يتعرض للسجن، الطريف أو الغريب في القصة أنها ذكرت أنها كانت متزوجة في فرنسا، وأن زوجها هو الذي أرسلها لسورية حيث تزوجت هذا الزوج المصري دون أن نفهم ملابسات علاقتها بزوجها الأسبق، وحرص من أجرى الحوار على توضيح أن هذه السيدة رغم اعترافها بالمعاناة والاحباط مما تعرضت له في سورية، لم تبد ندماً أو انتقاداً لـ«داعش». وفي الواقع أن المشهد السوري حافل بالعديد من القصص الغريبة، مع تجمع مئات الألوف من العناصر المتطرفة الوافدة من خارج سورية تحت أوهام وذرائع مختلفة، قد يكون من بينها نصرة الثورة في سورية، أو محاولة انتهاز الفرصة والصراع فيها لبناء دولة بدائية متخلفة تستغل اسم الاسلام كما فعلت «داعش»، أو للرغبة في الموت والاستشهاد، أو لأسباب تحتاج إلى تحليل نفسي واجتماعي كما في حالة هذه السيدة، التي يبدو أن زوجها وهي أيضاً قد تبرعت بنفسها للزواج من أحد الجهاديين، بالنهاية قائمة طويلة من الأسباب الملتبسة غير الرشيدة لممارسة القتل والعنف والموت وربما الجنس كذلك، لتقدم ظاهرة قد يقف أمامها باحثو العلوم الاجتماعية في فروعها المختلفة في حال من الدهشة والحاجة لفهم هذه الظاهرة المركبة والفريدة.
على الصعيد الفكري، ولأنني أعتقد وطرحت ذلك من قبل فإن القضية ليست تجديد الخطاب الديني، وإنما تنقية هذا الخطاب من تيار عميق مصاحب للأديان كلها وإن كان بدرجات مختلفة، وهو تيار اللاعقلانية والعنف والتعصب، وهو أي هذا التيار هو المسؤول عن الحروب الدينية، والقتل بدوافع التعصب، ولكني أيضاً أرى أن هذه التيارات كانت دوما موجودة، ولكن توظيف السياسة لها هو الذي يؤدي إلى ما رأيناه من ظواهر العنف في الماضي، وفي العصر الحديث منذ نشأة حركة الإخوان المسلمين، وشاهد ذلك كل حالات العنف الضخمة المصاحبة لظاهرتي القاعدة و«داعش»، فهناك مسؤولية واضحة للسياسة عن خلق هذه الظواهر، حتى لو تبرأ منها من صنعها في البداية وهو ما يحدث كل مرة تقريباً، فإن ما حدث في أفغانستان ثم اليوم في سورية وربما غداً في ليبيا خير دليل على أن المسؤولية تقع على عاتق السياسة في مكان ما والمعنى مفهوم، ومثلما واجهت الجزائر ومصر من آثار هذه الظاهرة، ما يسمى «العائدون من أفغانستان»، وما هو ثابت من تمويل أطراف خارجية للتطرف في مصر والذي يوشك أو أوشك بالفعل عن الانحسار، بالنهاية معالجة البعد الفكري والمطلوبة في حالة إرث «داعش» هي أحد التحديات الكبرى، ولكنها يجب أن تتركز على ترسيخ خطاب العقل، على أن هذا دوماً يتعلق بمنع تكرار الظاهرة، دون أن يلغي سؤالاً آخر لا يقل أهمية وهو هل يمكن إصلاح هؤلاء ليصبحون بشراً عاديين.
كما ذكرت حرص محاور السيدة الفرنسية أو التقرير الذي أذاعته القناة على الإشارة إلى أنها لم تبد ندماً أو هجوماً ضد «داعش»، في تجارب سابقة كحالة مصر، وبعد ضجة التوبة والمراجعات التي حدثت في التسعينات، فالواضح أن بعضهم بالفعل قد تراجع عن آرائه المتشددة، ولكن من كان مخلصاً في ذلك يبدو أقل ممن لم يكن كذلك، وتبين هذا بعد ثورتي كانون الثاني (يناير) 2011 ثم 30 حزيران (يونيو) 2013، بعضهم بالطبع لم يعد لممارسة العنف لتقدم سنه، ولكن من تراجع عن أفكاره بشكل حقيقي ليس بالكثرة التي آمل فيها المجتمع، ومن ثم فالتحدي الذي يمثله التعامل مع إرث «داعش» بالغ الصعوبة.
والمشكلة أننا هنا لا نتحدث عن بضع مئات أو حتى آلاف من الرجال بل آلاف من الأسر، وقد أشرنا وكثيرون إلى معضلة أدلب، وما سيفعل العالم تجاه أكبر معسكر- للمضللين والمجرمين والضحايا كذلك- في تاريخ البشرية، ومن بينهم أسر وزوجات وأطفال يتم تنشئتهم في هذه البيئة الاستثنائية لتبني هذه الأفكار والتوجهات، وتساءلنا عن أي إجراءات ستتبناها حكوماتهم لمحاولة إنقاذ هؤلاء الضحايا من الأطفال، فالأمهات مشاركات تماماً في تحمل المسؤولية والمواقف التقليدية التي تحاول أن تقلل من مسؤولية النساء في هذه المواقف لم يعد لها أي حجية قانونية أو أخلاقية يعتد بها، فالشواهد في حال سورية تجعل من حالات غياب مسؤولية النساء محدودة للغاية، والأخطر من ذلك أنه حتى في هذه الحالات فقد أصبحت هذه الأسر شريكاً خاصة بالغي سن الرشد منهم. في الماضي كانت هناك درجة من الاتفاق على عدم جواز معاقبة أسر هذه العناصر الإرهابية، ورغم أنه كثيراً ما كانت هناك حالات لانضمام الأبناء أو بعضهم إلى هذه الجماعات المتطرفة، أما ما قدمه النموذج السوري وملابساته فإنه يضيق كثيراً من احتمالات التعامل باستسهال أو حسن نوايا في هذه الأوضاع، ما قد يحتاج لاستضافة هذه الأسر في مراكز خاصة وبدء برامج إعادة تأهيل حتى لو كانت ليست مضموناً نجاحها، من ناحية أخرى وربما يكون من المفيد أيضاً عدم الاكتفاء بسجن مثل هذه السيدة الفرنسية بل إخضاع هذه الحالات لدراسات متعمقة من كافة الجوانب، وإعلان هذه النتائج خاصة في المجتعات الغربية لفهم كيف حدث هذا.
ولأن هناك أطرافاً عديدة مسؤولة عن ظاهرة «داعش»، فإن هناك حاجة لفكر غير تقليدي فيما يتعلق بالمسؤوليات وكلفة إعادة تأهيل هؤلاء البشر خاصة الأطفال، ففي التقدير أن فرص إصلاح البالغين محدودة بدرجة كبيرة ما يجعل التركيز على صغار السن مسألة ضرورية، وهو الأمر الذي قد يحتاج لمشاركة أممية واسعة لتحمل مسؤولية إدارة مراكز تجميع هؤلاء البشر بهدف استكشاف فرص إعادة تأهيلهم – كما أن هذا البعد الأممي في معالجة الظاهرة يحسن فرص النجاح ويقلل من الأعباء المادية خصوصاً أنها قد تستغرق سنوات طويلة.
وثمة أمران أخيران أولهما: أنه بعد أن دفعت البشرية هذه الكلفة العالية نتاج توظيف البعض للإرهاب والتطرف فقد آن الأوان لإجراءات دولية وقانونية جادة لمنع أي تصرفات أو سياسات مشابهة لا تتحسب لآثار هذه الظاهرة الخطيرة وما تتركه وراءها من تعقيدات قد تحتاج إلى أجيال لعلاجها بشكل جاد، وثانيهما هي الإجراءات الضرورية لمعالجة معاناة وضحايا جرائم «داعش» في المجتمعين السوري والعراقي من غير المسلمين أولاً وكذا من المسلمين وهنا أيضاً يجب تكريس المسؤولية الدولية في معالجة هؤلاء الضحايا ومساعدة المجتمع السوري على الشفاء وإزالة آثار هذه الجريمة الكبرى المسماة «داعش».