كنت أحاضر على مجموعة من الشباب عن الأوضاع العربية الراهنة فسألني أحدهم عما إذا كانت هناك تسوية سريعة محتملة للصراعات الراهنة التي تدور رحاها داخل عدد من الدول العربية، ووجدتني أجيبه على الفور: للأسف لا إطلاقاً. شرحت وجهة نظري بأن البلدان التي تدور فيها هذه الصراعات، وتحديداً العراق وسوريا واليمن وليبيا، قد خضعت لعقود لقوى ناظمة قوية القبضة تمثلت في نظم حاكمة شديدة الاستبداد، فلما سقطت هذه النظم بفعل معارضة داخلية أو تدخل خارجي تفككت مجتمعاتها ولم توجد قوى بديلة قادرة على أن تقوم بدور «القوى الناظمة»، ناهيك عن أن يتم ذلك بأسلوب ديمقراطي. بل إن البدائل البازغة للنظم القديمة تبدو مخيفة كما هو الحال في تنظيم «داعش» ومن على شاكلته، وليس هذا التنظيم وما حققه حتى الآن سوى نموذج على المرحلة الجديدة من مراحل تطور الظاهرة الإرهابية في الوطن العربي وهي «المرحلة الإقليمية»، إذا جاز التعبير. بمعنى أن الإرهاب في السابق كان يتبع استراتيجية أقرب إلى حرب العصابات التي تقوم على الكر والفر، ولكنه الآن يسعى إلى السيطرة الإقليمية وقد نجح في تحقيق ذلك في العراق وسوريا فأقام على أجزاء من إقليميهما «دولته» المزعومة التي احتفلت منذ يومين بعيد ميلادها الأول، وهي رسالة بالغة الخطورة لمن يعنيه الأمر، لأن ذلك يعني أننا لا نتحدث عن أوهام وإنما عن خطر حقيقي ما زال آخذاً في التمدد سواء في سوريا والعراق أو غيرهما كليبيا على سبيل المثال.
لكن الخطر لا يقف للأسف عند حد الإرهاب، ذلك أن سقوط القوى الناظمة الاستبدادية القديمة وعدم ظهور بدائل ذات كفاءة ناهيك عن أن تكون ديمقراطية أدى إلى انكشاف المجتمعات في تلك الدول وتعرضها لخطر التفكك والانقسام، ففي العراق على سبيل المثال أدى الغزو الأميركي الذي قوض أركان الدولة العراقية إلى تفكيك المجتمع العراقي وفق خطوط طائفية (شيعة وسنة) وقومية (عرب وأكراد)، ويدخل «داعش» بالمناسبة في سياق الانقسام الطائفي في أسوأ معانيه كما أن الإدارة الأميركية ما زالت تصر على تغذية الانقسامات العراقية بفكرة تزويد المكونات العراقية مباشرة بالسلاح وليس عن طريق الحكومة العراقية. وفي سوريا يتكرر النموذج العراقي بحذافيره، وفي اليمن تتعقد الصورة أكثر بكثير، فهناك خطوط جغرافية محتملة للانقسام (شمال وجنوب) وظاهرة «الحراك الجنوبي» ورفع مطلب الانفصال معروفة قبل ما يسمى بـ«الربيع العربي»، ولو وقع انفصال الجنوب عن الشمال، لا قدر الله، فإن الأمر لن يتوقف عند هذا الحد، فحضرموت التي تشغل نصف مساحة اليمن تقريباً لديها نزوع إلى تكوين دولة مستقلة، وللأسف فإن لديها مقومات ذلك، بل إن العودة إلى الوضع السابق على استقلال الجنوب الذي كان يعرف ما يقل قليلاً عن عشرين «شظية» سياسية بدأت تطرح من البعض ولو باستحياء. وكذلك يعرف اليمن خطوطاً طائفية للتفكك بين شيعته (الزيود) وسنته (الشوافع)، وعلى رغم أن اليمن لم يشهد في السابق احتقاناً طائفياً مؤثراً فإن ظهور التنظيمات السنية والشيعية المتطرفة كـ«القاعدة» و«داعش» والحوثيين يهدد اليمن ربما للمرة الأولى في تاريخه المعاصر باحتقان طائفي. وفي ليبيا أيضاً توجد خطوط جغرافية محتملة للتفكك (شرق وغرب) بالإضافة إلى التكوينات القبلية المعقدة والتنظيمات الإرهابية.
والمشكلة أن هذه الصراعات المحتدمة في الوطن العربي ما زالت تمر بالمرحلة التي تعتقد فيها أطرافها أن تحقيق النصر ما زال في متناول أيديها، ولذلك فاحتمالات التسوية تبدو بعيدة. والمشكلة الأخرى أن درجة التدخل الخارجي والاختراق الدولي اللذين يتسمان بالأنانية والحماقة وعدم الفاعلية تواصل العمل على مزيد من تفاقم الصراعات. وذكّرت سائلي للأسف بأن الحرب الأهلية في السودان بين الشمال والجنوب دامت منذ استقلاله تقريباً وحتى استقل الجنوب الذي لا ينعم بالاستقرار حتى الآن بسبب صراعات داخلية، وبأن الحرب بين الأكراد والسلطة المركزية في العراق استمرت منذ نهاية خمسينيات القرن الماضي وحتى الغزو الأميركي للعراق، وبأن الحرب الأهلية في لبنان قد تواصلت على مدار خمسة عشر عاماً من منتصف سبعينيات القرن الماضي حتى نهاية ثمانينياته، فاللهم فرج كربتنا.
د.أحمد يوسف أحمد
صحيفة الاتحاد