لا يمكن فهم الأزمة السياسية الحالية في مصر من دون فهم وتشريح لأزمتها الأهم، وهي الأزمة المجتمعية. وهي أزمة مركبة تكونت وامتدت على مدار العقدين الماضيين، حين توقفت قدرة الدولة على قيادة المجتمع، أو توجيهه، بالقدر الذي يمكنها من صياغة قراراته وخياراته. كما أنها، في الوقت نفسه، لم تدفع باتجاه أي نوع من التحول السياسي الحقيقي، يمكنه امتصاص حالة التحول التي كانت تجري في أعماق هذا المجتمع، من دون وعي أو دراية. فأصبحنا إزاء مجتمع يسير وحيداً، لا يعرف في أي اتجاه يسير، وإلى أية غاية.
فمصر، خلال العقدين الأخيرين، وتحديداً منذ أواخر التسعينيات، لم تكن دولة شمولية، بالمعنى الاصطلاحي للكلمة (كما الحال في كوريا الشمالية اليوم، أو كما كانت في ليبيا تحت حكم معمر القذافي أو العراق زمن صدام حسين)، لكنها أيضا لم تكن دولة ديمقراطية بشكل فعلي، يمكنه تحقيق نقلة نوعية في مراكز السلطة وعلاقاتها، يسمح بتجاوز تراث الدولة الناصرية السلطوية. وإنما كانت أقرب إلى الدولة الرخوة، المشغولة بأمرين فقط: تأمين السلطة لأطول وقت ممكن (من خلال سيناريو التمديد والتوريث)، وضمان عدم الانفلات الاجتماعي بشكل قد يدفع لقيام ثورة شعبية.
كلا الهدفين جعلا الدولة المباركية في نسختها الثانية (تحت قيادة الحرس الجديد في الحزب الوطني) ترفع يدها، بشكل غير مقصود، ونتيجة لانشغالها الكامل بضمان تحقيقهما، عن المجتمع الذي كان يتغير بالفعل، وبدرجة لم تكن الدولة قادرة على التحكم فيها، أو توجيهها بشكل يضمن لها السيطرة. فالانفتاح الاقتصادي النيوليبرالي، والذي بدأ يتبلور، منذ بداية الألفية الجديدة، وبدا تنفيذه فعليا عام 2004 (مع تشكيل أول حكومة يرسم سياستها رجال الأعمال والتكنوقراط بقيادة أحمد نظيف) أدى إلى تغير سريع في أنماط الحياة والتفكير والاستهلاك اليومي لدى المواطن العادي، كما أنه سمح بقدر من الاستقلالية عن الدولة الأبوية، ليس فقط بالمعنى الرعوي، وإنما أيضا بالمعنى السلطوي. وبدا الأمر وكأن ثمة عقداً غير مكتوب بين الدولة (نظام الحكم تحديداً) والمجتمع، بحيث تغض فيه الطرف عن التغيرات التي يمر بها الأخير، طالما أن هذا التغيير لا يمثل تهديداً حقيقياً لها ولعلاقات السلطة القائمة.
كلا الهدفين جعلا الدولة المباركية في نسختها الثانية (تحت قيادة الحرس الجديد في الحزب الوطني) ترفع يدها، بشكل غير مقصود، ونتيجة لانشغالها الكامل بضمان تحقيقهما، عن المجتمع الذي كان يتغير بالفعل، وبدرجة لم تكن الدولة قادرة على التحكم فيها، أو توجيهها بشكل يضمن لها السيطرة. فالانفتاح الاقتصادي النيوليبرالي، والذي بدأ يتبلور، منذ بداية الألفية الجديدة، وبدا تنفيذه فعليا عام 2004 (مع تشكيل أول حكومة يرسم سياستها رجال الأعمال والتكنوقراط بقيادة أحمد نظيف) أدى إلى تغير سريع في أنماط الحياة والتفكير والاستهلاك اليومي لدى المواطن العادي، كما أنه سمح بقدر من الاستقلالية عن الدولة الأبوية، ليس فقط بالمعنى الرعوي، وإنما أيضا بالمعنى السلطوي. وبدا الأمر وكأن ثمة عقداً غير مكتوب بين الدولة (نظام الحكم تحديداً) والمجتمع، بحيث تغض فيه الطرف عن التغيرات التي يمر بها الأخير، طالما أن هذا التغيير لا يمثل تهديداً حقيقياً لها ولعلاقات السلطة القائمة.
يمكن رصد ملامح التغير المجتمعي “الجوانية” في استعراض ثلاث ظواهر مهمة وكاشفة. أولها التغير الكبير في محتوى السينما المصرية الذي بدأ أواخر التسعينيات، والذي جسدته موجة من الأفلام الجديدة غير التقليدية، سواء في الطرح أو في الوجوه السينمائية التي بدأت بفيلم “صعيدي في الجامعة الأمريكية”، والذي جسد أول خروج حقيقي عن سينما “الحقبة الساداتية”، وفتح الطريق أمام “لون” سينمائي جديد، وظهر معه جيل جديد من النجوم، أبرزهم محمد هنيدي وأحمد السقا ومحمد سعد وحنان ترك (قبل الاعتزال) ومنى زكي وعلاء ولي الدين وكريم عبد العزيز وأحمد حلمي… إلخ. كما كانت نوعية الأفلام اللاحقة مختلفة، سواء في المضمون والطرح أو فى منظومة القيم (على النحو الذي جسدته، أساساً، أفلام محمد سعد، خصوصاً “اللمبي و”اللي بالي بالك” و”عوكل”… إلخ). كان استقبال هذه الموجة “الجديدة” من السينما أشبه باستقبال مجتمع جديد يختلف كلياً عن مجتمع ما قبل الألفية. وكان إقبال قطاع كبير من الشباب على هذه السينما الجديدة يعكس ليس فقط الإعجاب بها، وبنجومها الجدد، وإنما باعتبارها تجسيداً لحالة اجتماعية قائمة، ومحاولة للتماهي معها بأي شكل. أما الأهم، فإن التحولات في مجال السينما لم تكن قرار منتجين أو موزعين أو فنانين بحد ذاته، وإنما كانت انعكاساً لطلب اجتماعي، على شكل مغاير ومختلف للفن السابع، يتماشى مع المزاج العام الجديد، ما دفع صنّاع السينما للتجاوب معها حتى لا يخسروا ماديا واقتصادياً وفنياً.
أما المظهر الثاني لحالة التغير المجتمعي التي كانت تجري بعيداً عن سيطرة الدولة وتوجيهها (وإن استفادت منها ووظفتها أحياناً)، فتمثل فى تسارع عملية التمدين urbanization أو الانتقال من الريف إلى المدينة، سواء نتيجة حالة الضعف والإهمال التي تعرّض لها الريف، ووصلت إلى درجة مزرية أواخر عهد حسني مبارك، أو لتغير علاقات الانتاج التي أنتجتها السياسات الاقتصادية الجديدة. وقد ساهمت حالة التمدين، بشكل كبير، في ظهور نخبة سياسية واجتماعية وإعلامية جديدة، مختلفة تماماً عن التي كانت سائدة من قبل. وتحولت المدن وحواضرها الجديدة (6 أكتوبر ومدينة نصر بالقاهرة وبرج العرب بالاسكندرية والمنصورة بالدقهلية والمنيا بالمنيا والغردقة بالبحر الأحمر والعريش بشمال سيناء، أمثلة) إلى بؤر التقاء مهمة بين راغبي الترقي الاجتماعي والاقتصادي والمهني من جهة، ومنتجي النيبوليبرالية الجديدة ومروجيها من جهة أخرى، وهي أشبه بعلاقة بين المستهلك والمنتج. وكان مجال الصحافة والإعلام من أكثر المجالات التي جسدت هذه العلاقة الجديدة، وعكست التزاوج النيوليبرالي بين الريف والمدينة، والتي ساهمت، إلى حد بعيد، في تشكيل العقل النخبوي الجديد.
وتمثل المظهر الثالث في تحولات المجال الديني في مصر، خصوصاً في الحيز أو الإطار غير الرسمي. وقد تجسدت تمظهرات هذا التحول في ثلاثة ظواهر مترابطة، وإن لم تكن بالضرورة متجانسة. أولها ظاهرة “الدعاة الجدد” التي هيمنت على المجال الديني، بشقيه غير الرسمي وغير الحركي، منذ أواخر التسعينيات وحتى عامي 2005 و2006. وهي ظاهرة كانت متناغمة تماماً مع التحول الاقتصادي النيوليبرالي الذي كان يقوده جمال مبارك، وعزّز اقتصاد السوق، وحرّره من أية ضوابط فوقية. وأوجد هذا التحول الاقتصادي السريع طبقة (أو بالأحرى شريحة) اجتماعية جديدة، تسعى إلى تحقيق التوازن بين سلوكها وقيمها الاستهلاكية من جهة، وحاجتها الروحانية الدينية من جهة أخرى، لكنها ترغب في تحقيق ذلك، بعيداً عن الحركات الدينية المؤطرة سياسياً.
أما التمظهر الثاني لتحولات المجال الديني، فهي على النقيض من الظاهرة السابقة، وأقصد هنا ظهور “السلفنة” وهيمنته على المجال الديني، خلال النصف الثاني من عقد الألفية الأول. وهي ظاهرة، وإن عكست، في جزء منها، حالة الصراع الضارية بين الدولة ومنافسيها من الحركات الدينية الحركية، خصوصاً جماعة الإخوان المسلمين، إلا أنها أيضا شكلت رد فعل “هوياتياً” وارتداداً للسياسات النيوليبرالية الجديدة. فعلى عكس “الدعاة الجدد”، كان “السلفيون الجدد” يرون أنفسهم بمثابة حائط صد أمام حالة “الاستلاب” الهوياتي والثقافي ضد الأمة، والتي تجلت في ظهور “التدين المائع أو الناعم” على أيدي “الدعاة الجدد”. وقد تم فتح المجال أمام هؤلاء السلفيين الجدد، من أجل ضمان تحقيق توازن بين الفاعلين الدينيين، واستخدامهم ضد بعضهم.
أما التمظهر الثالث فهو رواج “السوق الدينية” بالمعنى الاقتصادي والاستهلاكي، فقد وصل الطلب الديني على خطاب الهوية إلى مستويات غير مسبوقة، وأصبح ممثلوه بمثابة “نجوم شباك” على القنوات الفضائية التي كانت أيضا غارقة، حتى أذنيها، في ترويج ما يسميه الباحث السويسري، باتريك هاني، “إسلام السوق”. فلم يكن رصيف مسجد أو زواية في مصر يخلو من انتشار للمنتجات الدينية (أشرطة وكتب وعظية، ملابس دينية، خصوصاً النقاب والإسدال للسيدات وجلباب وغطرة للرجال… إلخ).
كانت هذه التحولات، وغيرها، في خلفية ثورة 25 يناير، قبل أن يدخل المجتمع في حالة جديدة من التحول والسيولة عقب الثورة، أفضت إلى موجة جديدة من التغيرات التي تم إجهاضها مع انقلاب 3 يوليو، وتمكين الثورة المضادة.
الآن، تحاول الدولة ليس فقط إعادة سيطرتها على المجتمع، ومنع تحولاته من المنبع، وإنما أيضا العمل على تشكيل هذه التحولات وصياغتها، عبر التحكم في أجهزة “غسل الأدمغة” التي تعمل ليل نهار، ويبدو المجتمع معها، كما لو كان وحيداً، لا يعرف ماذا يريد وإلى أين يسير.
أما المظهر الثاني لحالة التغير المجتمعي التي كانت تجري بعيداً عن سيطرة الدولة وتوجيهها (وإن استفادت منها ووظفتها أحياناً)، فتمثل فى تسارع عملية التمدين urbanization أو الانتقال من الريف إلى المدينة، سواء نتيجة حالة الضعف والإهمال التي تعرّض لها الريف، ووصلت إلى درجة مزرية أواخر عهد حسني مبارك، أو لتغير علاقات الانتاج التي أنتجتها السياسات الاقتصادية الجديدة. وقد ساهمت حالة التمدين، بشكل كبير، في ظهور نخبة سياسية واجتماعية وإعلامية جديدة، مختلفة تماماً عن التي كانت سائدة من قبل. وتحولت المدن وحواضرها الجديدة (6 أكتوبر ومدينة نصر بالقاهرة وبرج العرب بالاسكندرية والمنصورة بالدقهلية والمنيا بالمنيا والغردقة بالبحر الأحمر والعريش بشمال سيناء، أمثلة) إلى بؤر التقاء مهمة بين راغبي الترقي الاجتماعي والاقتصادي والمهني من جهة، ومنتجي النيبوليبرالية الجديدة ومروجيها من جهة أخرى، وهي أشبه بعلاقة بين المستهلك والمنتج. وكان مجال الصحافة والإعلام من أكثر المجالات التي جسدت هذه العلاقة الجديدة، وعكست التزاوج النيوليبرالي بين الريف والمدينة، والتي ساهمت، إلى حد بعيد، في تشكيل العقل النخبوي الجديد.
وتمثل المظهر الثالث في تحولات المجال الديني في مصر، خصوصاً في الحيز أو الإطار غير الرسمي. وقد تجسدت تمظهرات هذا التحول في ثلاثة ظواهر مترابطة، وإن لم تكن بالضرورة متجانسة. أولها ظاهرة “الدعاة الجدد” التي هيمنت على المجال الديني، بشقيه غير الرسمي وغير الحركي، منذ أواخر التسعينيات وحتى عامي 2005 و2006. وهي ظاهرة كانت متناغمة تماماً مع التحول الاقتصادي النيوليبرالي الذي كان يقوده جمال مبارك، وعزّز اقتصاد السوق، وحرّره من أية ضوابط فوقية. وأوجد هذا التحول الاقتصادي السريع طبقة (أو بالأحرى شريحة) اجتماعية جديدة، تسعى إلى تحقيق التوازن بين سلوكها وقيمها الاستهلاكية من جهة، وحاجتها الروحانية الدينية من جهة أخرى، لكنها ترغب في تحقيق ذلك، بعيداً عن الحركات الدينية المؤطرة سياسياً.
أما التمظهر الثاني لتحولات المجال الديني، فهي على النقيض من الظاهرة السابقة، وأقصد هنا ظهور “السلفنة” وهيمنته على المجال الديني، خلال النصف الثاني من عقد الألفية الأول. وهي ظاهرة، وإن عكست، في جزء منها، حالة الصراع الضارية بين الدولة ومنافسيها من الحركات الدينية الحركية، خصوصاً جماعة الإخوان المسلمين، إلا أنها أيضا شكلت رد فعل “هوياتياً” وارتداداً للسياسات النيوليبرالية الجديدة. فعلى عكس “الدعاة الجدد”، كان “السلفيون الجدد” يرون أنفسهم بمثابة حائط صد أمام حالة “الاستلاب” الهوياتي والثقافي ضد الأمة، والتي تجلت في ظهور “التدين المائع أو الناعم” على أيدي “الدعاة الجدد”. وقد تم فتح المجال أمام هؤلاء السلفيين الجدد، من أجل ضمان تحقيق توازن بين الفاعلين الدينيين، واستخدامهم ضد بعضهم.
أما التمظهر الثالث فهو رواج “السوق الدينية” بالمعنى الاقتصادي والاستهلاكي، فقد وصل الطلب الديني على خطاب الهوية إلى مستويات غير مسبوقة، وأصبح ممثلوه بمثابة “نجوم شباك” على القنوات الفضائية التي كانت أيضا غارقة، حتى أذنيها، في ترويج ما يسميه الباحث السويسري، باتريك هاني، “إسلام السوق”. فلم يكن رصيف مسجد أو زواية في مصر يخلو من انتشار للمنتجات الدينية (أشرطة وكتب وعظية، ملابس دينية، خصوصاً النقاب والإسدال للسيدات وجلباب وغطرة للرجال… إلخ).
كانت هذه التحولات، وغيرها، في خلفية ثورة 25 يناير، قبل أن يدخل المجتمع في حالة جديدة من التحول والسيولة عقب الثورة، أفضت إلى موجة جديدة من التغيرات التي تم إجهاضها مع انقلاب 3 يوليو، وتمكين الثورة المضادة.
الآن، تحاول الدولة ليس فقط إعادة سيطرتها على المجتمع، ومنع تحولاته من المنبع، وإنما أيضا العمل على تشكيل هذه التحولات وصياغتها، عبر التحكم في أجهزة “غسل الأدمغة” التي تعمل ليل نهار، ويبدو المجتمع معها، كما لو كان وحيداً، لا يعرف ماذا يريد وإلى أين يسير.
خليل العناني
صحيفة العربي الجديد