تميزت سنة 2018 في سوريا باستكمال انتصار نظام الأسد والانتقال من التركيز على الحرب إلى خطط لتشكيل الدولة وإعادة إعمارها في اليوم التالي للحرب. المؤسسات الدولية تقدر الأضرار التي وقعت في سوريا في سنوات الحرب بحوالي 350 ـ 400 مليار دولار. هذا التقدير يشمل الأضرار المادية الصعبة للبنى التحتية وانهيار الاقتصاد وفقدان المداخيل. الضرر المادي سيكون بالإمكان إصلاحه بوجود مساعدة خارجية، حتى لو كانت عملية إعادة الإعمار ستستمر سنوات كثيرة. ولكن سيمر وقت أطول، ربما عشرات السنين، قبل أن يتم إعمار مكونات الأضرار الأخر؛ المس بالإنتاجية والإنتاج المستقبلي، وهروب الطبقة العليا والوسطى من الدولة، والمس بتعليم الجيل الشاب. إضافة إلى ذلك، أمام سوريا تحديات اجتماعية وعلى رأسها التوترات الطائفية وعدم التكافل الاجتماعي، والفساد، والأنانية وترسخ نخبة اقتصادية جديدة مقربة من الرئيس الأسد وتتعامل كمافيا.
التحديات الداخلية
اليوم يسيطر الرئيس الأسد والقوات المساعدة له على 70 في المئة من أراضي سوريا تقريباً، وتشمل معظم المناطق الحضرية وتسيطر على أكثر من نصف السكان. مستوى السيطرة في المناطق الحضرية، العمود الفقري للدولة: دمشق، حمص وحماة، مرتفع نسبياً، وكذا في شرق سوريا وفي حلب (التي فقدت مكانتها كمركز اقتصادي بعد 2011)، صحيح أن النظام يسيطر عسكرياً، لكنه يجد صعوبة في بلورة سيطرة مدنية. في منطقة ادلب، معقل المتمردين الأخير، لا توجد سيطرة للنظام. المنطقة الكردية في شرق نهر الفرات تحظى بخصائص الحكم الذاتي، ولكنها تتعرض للخطر على ضوء قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سحب القوات الأمريكية من سوريا، التي تساعد الأكراد، وأيضاً تصميم تركيا على منع إعطاء حكم ذاتي لهذا الفضاء.
يبدو أنه رغم دروس الحرب، إلا أن نظام الأسد لم يبدأ في إعادة إعمار شاملة تفيد المواطنين السوريين. النظام يتقدم في إصلاح الوضع في المراكز الحضرية التي تحت سيطرته، لكن نشاطه خارجها محدود ومقلص. ويُقال حتى إن الأسد يزيد نفوذه بواسطة تأثيره عن طريق علاقات مع رؤساء مافيا محليين. يمكن الافتراض أن النظام سيواصل استخدام القوة ضد المدنيين بهدف ترسيخ السيطرة ومنع الانتفاض. ويبدو أنه رغم محدودية الموارد، إلا أن النظام سيتنازل عن المساعدة والدعم من الغرب لإعادة الإعمار إذا طلب منه في المقابل تبني نماذج حكم غربية (ديمقراطية). في هذه المرحلة يحاول النظام تجنيد أموال واستثمارات خارجية، لا سيما من مصادر خاصة.
مقاربة النظام لعودة اللاجئين تتأثر باعتبارين بينهما توتر، فمن جهة النظام يعرف أن عودة اللاجئين حاسمة بخصوص إعمار سوريا، حيث إنه أعد لهم دوراً هاماً في تطوير الاقتصاد والمجتمع بعد الحرب. بقاء اللاجئين خارج سوريا، خاصة النخب أرباب الأموال والأصول الحيوية، ستؤخر بشكل كبير إعادة الإعمار. من جهة أخرى، يخشى النظام من السكان المعنيين باستبداله. تركها لسوريا في عملية تطهير سياسي وديمغرافي طوال سنوات الحرب، يخدم ـ حسب رأيه ـ استقرار النظام، وهذا من ناحيته يضع عقبات أمام عودتهم، أو يعمل بهدف تقليص تأثيرها، إذا عمل.
اعتماد النظام على إيران
سلوك الرئيس الأسد يدل على أنه في أعقاب الحرب يسعى إلى تعزيز النموذج الديمقراطي لنظامه، مع الحفاظ على علاقة وطيدة مع حلفائه الذين أيدوه أثناء الحرب، لا سيما إيران وروسيا. في هذه المرحلة، النظام يناور بين روسيا وإيران مع تفضيل روسيا، لأنه يخاف من تدخل إيراني زائد في إدارة الدولة. مثلاً، البنى التحتية للنفط وضعت في أيدي روسيا، مثال آخر هو صناعة الفوسفات، التي أعطيت في البداية لإيران، لكن بالتدريج تزيد فيها مشاركة روسيا. إيران من ناحيتها ما زالت تقود عملية إعادة إصلاح البنى التحتية لشبكة الكهرباء في سوريا، وهي معنية بربط عملية إعادة الإعمار باستمرار تمركزها في الدولة في عدة مجالات ـ العسكري والاقتصادي والاجتماعي والتعليمي والسياسي.
روسيا تحاول تعزيز نفوذها في سوريا من خلال دفع مصادر اقتصادية واستراتيجية قدمًا، ستمكنها من التأثير على النظام مستقبلاً. هذا تقوم به ـ بواسطة المساعدة في إعادة بناء الجيش السوري وتسليحه ـ جهود تشكيل وقيادة الخطوات السياسية ذات الصلة؛ توحقيق سيطرة على الموارد الطبيعية ووسائل نقلها مثل بناء أنابيب غاز، وتوسيع ميناء طرطوس، ومد سكك حديدية من حقول الفوسفات إلى الميناء، وإنشاء خط تجاري بحري إلى ميناء نوفوسي بيرسك. القيد الروسي الأساسي هو كونها لا تملك قدرات مالية مستقلة مناسبة، وعلى هذه الخلفية فإن شركات روسية تجارية تشترط مشاركتها في عملية إعمار سوريا بأن تحظى بأفضليات تنافسية ومكاسب فورية.
المجتمع الدولي من ناحيته مستعد للمساعدة في إعمار سوريا شريطة أن يقود النظام إصلاحات في نظام الحكم واصلاحات اقتصادية واجتماعية، لكن هذه غير مقبولة عليه. لذلك، لا يتوقع مساعدة كبيرة (باستثناء مساعدة إنسانية محدودة) من الدول الغربية. الاتحاد الأوروبي صادق في حزيران 2018 على العقوبات المفروضة على المساعدات المقدمة لنظام الأسد. ويجب عليه مناقشة تمديدها كل سنة. هذه العقوبات تعيق وتقيد مشاركة الغرب في مشاريع إعادة الإعمار، وعملياً تخلد وحتى تزيد اعتماد النظام على إيران وروسيا. الدول العربية تسلم ببقاء الأسد في الحكم وتتبع خط براغماتي أكبر من خلال استئناف العلاقات الدبلوماسية مع سوريا، ولكنها تربط المساعدات الاقتصادية بتقليص نفوذ ووجود إيران في الدولة. دول الخليج السنية من ناحيتها تخشى إذا رفعت أيديها عن إعادة الإعمار في سوريا فإن إيران ستسيطر على الدولة مثلما حدث في العراق.
معانٍ لإسرائيل
رغم أن النظام يفضل علاج جراح الحرب ويجد صعوبة في تجنيد الموارد لبناء الجيش السوري، يجب على إسرائيل أن تكون متنبهة لاحتمال أن عملية إعادة ترميم الجيش السوري ستكون سريعة، حتى بدون عملية إعادة الإعمار المدنية أو ترسيخ سيطرة كاملة للحكم. وذلك في أعقاب مساعدات خارجية لبناء القوة العسكرية التي يحصل عليها النظام السوري من روسيا وإيران، والحاجة إلى ترسيخ رد عسكري على الهجمات المتكررة لإسرائيل في سوريا.
بناء على ذلك، حتى لو بقيت سوريا والمجتمع السوري تحت الأنقاض فلن يكون في ذلك ما يمنع نظاماً دفاعياً جوياً متطوراً، نظام صواريخ أرض ـ أرض، وجيشاً برياً لديه قوات كبيرة. في الوقت نفسه، ستواصل سوريا تشكيلها منصة لتهديدات استراتيجية منها نشر شبكة صواريخ أرض ـ أرض دقيقة وأنظمة جمع معلومات إيرانية، إلى جانب وجود قوات مرسلة من إيران ـ قوة القدس، وحزب الله ومليشيات شيعية ـ على أراضيها، بما في ذلك قرب الحدود مع إسرائيل. ضعف سوريا يخلق من ناحيتها اعتماداً على الدعائم الخارجية المعادية لإسرائيل، لا سيما إيران. وكلما زاد دور إيران في إعادة إعمار سوريا فستستخدم فضاء سورياً في ترسيخ بنيتها العسكرية للمدى البعيد من خلال استغلال مكانة النظام الضعيفة والديون لإيران التي تراكمت أثناء الحرب. مع ذلك الضعف الاقتصادي لإيران (الذي سيتأثر أيضاً بفعالية العقوبات الأمريكية ضدها) سيقيد قدرتها على الإسهام في إعادة الإعمار.
لإسرائيل مصلحة في تنفيذ إعادة الإعمار التي ستركز الموارد السورية والموارد الأخرى في الداخل على الاحتياجات المدنية في بناء الدولة من جديد وفي استقرارها. كلما كانت ساحة سوريا مستقرة أكثر وتركز على عملية إعادة الإعمار، من المتوقع أن تتقلص حرية عمل إيران في اطار جهودها لزيادة نفوذها وترسيخ تواجدها العسكري في سوريا. وستتقلص أيضاً احتمالية الصعود من جديد لجهات جهادية سلفية على الأراضي السورية. من الأفضللإسرائيل أن يتم تشكيل نظام مركزي وفعال في سوريا، يشكل عنواناً ومسؤولاً عن عملية إعادة الإعمار، وكذلك كل ما يتعلق بالنشاطات العسكرية أو الإرهابية من الأراضي السورية.
إسرائيل يمكنها استغلال المصالح المشتركة بينها وبين الدول العربية البراغماتية في صد النفوذ الإيراني في الساحة السورية والمساعدة في تشكيل قوة مهمة عربية ودولية لإعادة إعمار سوريا. بواسطة دول الخليج تستطيع إسرائيل أن تقدم رزم مساعدة مميزة، ترتكز على مواردها، مع تكنولوجيا ومعرفة إسرائيلية (مثلاً، في مواضيع تكنولوجية مدنية، تنقية المياه، الزراعة المتطورة) شريطة أن يتم إبعاد تدخل إيران في إعادة الإعمار والنفوذ على العملية. هذا يخضع لأربعة شروط: كبح أي مبادرة أقليمية ودولية تناقش إعادة هضبة الجولان لسوريا؛ وتخصيص موارد لإعادة الإعمار لجنوب سوريا وهضبة الجولان السورية أيضاً ـ منطقة يتوقع إهمالها اقتصادياً من قبل النظام؛ ثم تقليص نفوذ إيران وإبعاد مبعوثيها عن الحدود في هضبة الجولان؛ وإعطاء أولوية لروسيا في مشاريع اقتصادية لإعادة الإعمار من خلال التعهد بعدم إشراك إيران فيها.
إدارة ترامب أعلنت أنه من الأهداف الأمريكية في سوريا، خروج القوات الإيرانية من أراضي الدولة وتقليص نفوذها فيها. من هنا، يجب على إسرائيل العمل بتنسيق مع الولايات المتحدة في إطار ربط إعادة الإعمار بتحقيق هذه الأهداف. ويجب أن نذكر أن الولايات المتحدة عامل مؤثر في الأجسام المالية الهامة في العالم ـ صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وما شابه. معقول أن هذه المؤسسات ستؤثر بهذه الصورة أو تلك على إعادة الإعمار في سوريا.
في الختام، مسألة إعادة إعمار سوريا تطرح معضلة بالنسبة لإسرائيل. فمن جهة، لإسرائيل مصلحة في دعم جهود إعادة الإعمار التي تقودها الدول الغربية والعربية، ومساعدتهم فيها، شريطة أن يتم اإعاد النفوذ الإيراني من سوريا. مع ذلك، إذا لم يتحقق هذا الهدف ولم تساعد هذه الدول في إعادة الإعمار فإن النظام السوري سيجد صعوبة في تشكيل نظام جديد وترسيخ سيطرته والبدء في عملية إعادة إعمار مالية واقتصادية واجتماعية. في هذه الظروف ستزيد احتمالية اندلاع العنف من جديد، ونمو جهات سلفية ـ جهادية، تضعضع الاستقرار في سوريا، وهذا وضع ستستغله إيران من أجل توسيع نفوذها. من هنا، يجب على إسرائيل تبني رؤيا من التدخل غير المباشر في عملية إعادة الإعمار مع دول عربية سنية أو مع دول غربية، حتى بدون ضمان لابعاد نفوذ إيران من سوريا، أي التخلي عن رؤيا «لعبة المجموع الصفري» أمام إيران فيما يتعلق بنفوذها في سوريا.
القدس العربي