بعد سيطرة تنظيم «الدولة» (داعش) على الموصل في التاسع من يونيو/حزيران 2014، ثم إعلانه قيامه الخلافة الإسلامية تحت مسمى «الدولة الإسلامية» بديلا عن الاسم القديم «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، ومن ثم إلغاء اسم العراق والشام من التداولات الرسمية الخاصة بهم في يوم 29 من الشهر نفسه، كما جاء في كلمة أبي محمد العدناني المتحدث باسم التنظيم حينها، والتي فرضت على الأرض بشكل عملي من خلال إعلان تأسيس ولاية الفرات التي ضمت مدينتي القائم العراقية والبو كمال السورية الحدوديتين وما يحيط بهما، وطمس معلم الحدود بالكامل بين البلدين، بدأ الكثيرون يتحدثون عن «نهاية» و «محو» اتفاقية سايكس ـ بيكو، وعن خرائط جديدة ترسم على الأرض، وعن وقائع جيوسياسية تفرض نفسها بقوة في المنطقة.
واليوم، بعد إعلان العراق النصر النهائي على «داعش»، و«السيطرة بالكامل على الحدود مع سوريا» كما جاء في خطاب النصر الذي أعلنه رئيس مجلس الوزراء العراقي السابق حيدر العبادي، ثم إعلان بشار الأسد أنه على «موعد قريب من النصر» بعد الانتصارات التي تحققت في مناطق عديدة؛ من بينها مدينة البوكمال وبادية دير الزور، و بعد سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على الجانب السوري من الحدود العراقية السورية شمالا باتجاه، لا يبدو أن سؤال الحدود قد انتهى، بل ثمة مؤشرات كثيرة على أن هذه الحدود ستكون موضع صراع حاد بين فواعل دوليين، وفواعل محليين كثر، وهو ما سيبقي الجدل حول حدود سايكس بيكو ومستقبلها قائما إلى حين! خاصة أن داعش نفسه ما زال يشكل خطرا قائما لم ينته بعد.
ثمة ثلاثة فاعلين دوليين وإقليميين رئيسيين في هذا الصراع، هم الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا وإيران، وثمة فواعل محليين وغير محليين، ينازعون الموقف الرسمي للدولتين العراقية والسورية في هذه المنطقة! ولكل من هؤلاء رؤيته واستراتيجيته ومصالحه التي نادرا ما تلتقي.
الولايات المتحدة تخبطت كثيرا في موقفها تجاه سوريا، وكانت ثمة تحولات حادة حكمت السياسة الأمريكية طوال سنوات ما بعد 2011، بسبب الافتقاد إلى استراتيجية واضحة ومتفق عليها! ثم جاء إعلان الرئيس ترامب المفاجئ من سوريا ليكرس هذه الحقيقة التي يعترف بها الجميع. ولكن الإعلان نفسه، وغموض الموقف النهائي من سوريا، وأخيرا تصريحات ترامب نفسه حول نقل هذه القوات إلى العراق، والحديث عن «مراقبة إيران»، بموازاة مؤشرات متتالية على تحركات أمريكية في الجانب العراقي من الحدود مع سوريا، فضلا عن تحركات «استعراضية» في مناطق أخرى، زادت من غموض الموقف الأمريكي، كما زادت من التكهنات والتأويلات والافتراضات، وربما الأوهام حول الهدف النهائي منها. ولكن من الواضح أن صانع القرار الأمريكي في النهاية يضع الحدود العراقية السورية على رأس أولوياته في «سياسته» القائمة في المنطقة، ربما بانتظار الوصول إلى استراتيجية واضحة المعالم.
الولايات المتحدة تخبطت كثيرا في موقفها تجاه سوريا وكانت ثمة تحولات حادة حكمت السياسة الأمريكية طوال سنوات ما بعد 2011، بسبب الافتقاد إلى استراتيجية واضحة
تركيا لا يمكن بكل تأكيد الفصل بين الموقف التركي من قوات سوريا الديمقراطية، التي باتت تسيطر على مسافة تمتد لما يقارب 500 كم من الحدود التركية السورية، والتداعيات المحتملة لهذا الموقف في النهاية على مستقبل قوات سوريا الديمقراطية والطموح الكردي عموما، عن صراع الإرادات على الحدود العراقية السورية! وكان من الواضح ان الولايات المتحدة لم تكن مهتمة إلا بالوصول إلى هدف وحيد هو هزيمة سريعة لـ «الدولة» من خلال التعاون مع قوات كردية شبه جاهرة، بمعزل عن الحساسيات التي يمكن أن تثيرها هذه القوات في مرحلة لاحقة، والتداعيات التي يمكن أن تنتج عن اختلال علاقات القوة بين أقلية كردية مسلحة مهيمنة مع أغلبية عربية في هذه المنطقة، خاصة في ظل ادعاءات تاريخية بملكية الأرض، والصراع على الموارد.
إيرانيا، وبعيدا عن النزعة الامبراطورية الملازمة للعقلية الإيرانية، من الصفويين إلى القاجاريين إلى ولاية الفقيه، وبعيدا عن التغول السياسي الإيراني غربا، من العراق إلى سوريا إلى لبنان، ثمة مصالح حيوية تجعل الحدود العراقية السورية هدفا جيوسياسيا لإيران في إطار مشروعها الخاص في المنطقة، فهي المفتاح لتحقيق حلم إيران بالوصول إلى البحر الأبيض المتوسط، ليس لغرض تكريس هيمنتها السياسية في هذه المنطقة، وايجاد طريق بري «آمن» بينها وبين سوريا والبحر من جهة، ولبنان حزب الله من جهة أخرى فقط، لكن بسبب الإمكانات الاقتصادية التي يوفرها هذا الطريق لعبور النفط والغاز الإيراني في مرحلة لاحقة، وهي قد عملت منهجيا لتأمين خط الحرير الجديد هذا في العراق إلى حد كبير، بانتظار تطويره لاحقا في سوريا.
على مستوى الفاعلين المحليين، أو شبه المحليين (مثل حزب الله والميليشيات العراقية والأفغانية المقاتلة في سوريا أو البي كي كي في العراق)، يبدو واضحا أن لكل منها اهدافه الخاصة، ومصالحة الخاصة، التي تدفعه لاتخاذ مواقف قد لا تلتقي مع المواقف الرسمية لكل من العراق وسوريا، مع ما سينتج عن ذلك من توترات مستقبلية يمكن لها أن تطيح بالأحلام التي رسمتها خطابات النصر!
على المستوى الاجتماعي، ما زالت ثمة توترات تاريخية بين المناطق الحدودية، والمراكز السياسية في كل من بغداد ودمشق، بسبب التهميش السياسي والاقتصادي، ولكن التداعيات الأخيرة فرضت عاملا آخر يتمثل في الحساسيات التي فرضتها السياسات الطائفية التي أصبحت عنوانا للمنطقة. وهذه الحساسيات، عراقيا وسوريا، يمكن لها أن تنتج ظروفا شبيهة بالظروف التي أتاحت لـ «داعش» أن تتحول من تنظيم أيديولوجي/ سلفي جهادي، إلى ظاهرة سياسية واجتماعية! وهو ما يفرض على الجميع عدم الركون إلى المقاربات العسكرية والأمنية في التعاطي مع هكذا مشكلات مركبة، بل تفرض على الجميع البحث عن استراتيجيات تحظى بثقة الجمهور وقبوله، ويمكن لها أن تقلل من فرض استثمار الراديكاليين لهذا الفشل المستدام!
في ظل هذا التدافع، يبدو واضحا أن الحدود العراقية السورية مرشحة بقوة لكي تكون مسرحا لصراع إرادات على المدى القصير والمتوسط، وليس ثمة مؤشرات على وجود إمكانية لدى كلا الدولتين لفرض إرادتهما، هذا إن وجدت أصلا، ليس بسبب الافتقاد لمنطق الدولة في كلا الدولتين فقط، ولكن بسبب الفاعلين المحليين وغير المحليين الكثر، المرتبطين أصلا بالفاعل الخارجي الإقليمي والدولي، الذين ينازعون الدولة سلطتها!
القدس العربي