تقديم
تسلط المادة الضوء على المعارك الطاحنة التي شهدها القضاء التركي، بدءا من مواجهة حزب العدالة والتنمية -وأردوغان الواصل للسلطة حديثا وقتها- ضد الهيئة العليا للقضاة والمدعين والتي دافعت بشراسة عن جنرالات الجيش في قضية “أرجنكون” ووقفت ضد إصلاحات العدالة والتنمية للساحة القضائية، ومرورا بحرب العدالة والتنمية ضد جماعة “فتح الله غولن”، والتي لم تنته حتى نجحت الحكومة في وضع حد لتلاعب حركة “غولن” بالقضاء، بعد أن هندس أردوغان والحزب “العدالة والتنمية” إستراتيجية طويلة المدى لتفكيك قواعد الحركة في القضاء والشرطة، وخاصة المنظومة القضائية. فكيف سارت المعركة من مصادرها الرسمية؟ وماذا تعني نتائجها لمستقبل تركيا؟
نص التقرير
لم يمضِ “زكريا أوز” وقتا طويلا في منصبه الجديد حتى بدأ يذيع صيته داخل أروقة القضاء التُّركي، فقد أتى إلى إسطنبول عام 2004 بعد سبع سنوات من اجتيازه الامتحان المخصص للتعيين كمُدعٍ عام، وعمله في بضعة مدن أناضولية قبل أن يُنقل أخيرا إلى المدينة الأكبر بتُركيا. لم ينتظر “أوز” كثيرا حتى ظهرت بصمته في العام نفسه حين نجح في فتح التحقيق بخصوص “لؤي السقا”، أحد معاوني “أبو مصعب الزرقاوي” بالعراق آنذاك[1]، وإثبات صلته بالتفجيرات[2] التي وقعت بإسطنبول في العام السابق لتعيين “أوز” نفسه، 2003، وهي تفجيرات استهدفت القنصلية البريطانية ومقر بنك “HSBC” البريطاني ومعبدين يهوديَّين.
برغم ذلك، فإن نجم “أوز” لم يكن قد سطع بعد، إذ احتاج إلى ثلاث سنوات أخرى حتى بدأ في اقتفاء أثر ما عُرف بشبكة “أرجنكون” الانقلابية داخل الجيش، لتنفتح الأبواب أمام واحدة من أكبر القضايا السياسية في تاريخ تركيا تحت إشراف عدد من “القضاة الجدد” أو الإصلاحيين الرافضين لهيمنة الحرس الكمالي -نسبة لمؤسس الجمهورية كمال أتاتورك- على مؤسسات الدولة، لا سيّما القضاء والجيش.
لم تكن معركة “أوز” سهلة أبدا، فقد وقفت الدولة كلها آنذاك بوجه تلك المجموعة الصغيرة من القضاة الإصلاحيين -منهم محافظون ومنهم ليبراليون ديمقراطيون- لعرقلة مسار التحقيقات في قضية “أرجنكون” بكل ما أوتيت من قوة، بدءا من المؤسسات الإعلامية الكبرى، وحتى جنرالات الجيش ومؤسسة الاستخبارات التُّركية، في حين حظي “أوز” ورفاقه بدعم هشٍ من رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، الواصل لتوّه للسُّلطة قبل خمسة أعوام فقط، وبعض المنابر الإعلامية الصغيرة المحسوبة على حزبه وعلى حركة غولن المحافظة.
اشتدت المعركة بين عامي 2007 و2009 حين بدأ العدالة والتنمية يأخذ خطوات جديدة لترشيح وزير الخارجية عبد الله گل رئيسا للجمهورية، ليكون أول رئيس ذي خلفية إسلامية صريحة -وبزوجة محجّبة- يجلس في قصر أتاتورك، وهي معركة وقفت بوجهها المحكمة الدستورية[3] -قبل أن تمُر في الأخير بعد انتخابات برلمانية مبكّرة عام 2007- تماما كما وقفت ضد تشريعات الحزب لرفع الحظر عن الحجاب في الجامعات التُركية.
كان رأس الحربة في تلك المعركة هو “تكتُّل القضاة والمدعين” المعروف بـ”يارساﭫ” (YARSAV)، والمكوّن من العناصر الكمالية بالقضاء والأثقل وزنا في تلك الفترة، وهو تكتل حظي بدعم حزبَيْ الشعب الجمهوري (الكمالي) والحركة القومية (القومي التُّركي)، “دفاعا عن قيم الجمهورية” كما أسموها، في حين تجمّع المعسكر الإصلاحي في القضاء تحت راية الديمقراطيين (Democrat Yargi)، “التزاما بتطبيق المعايير الأوروبية[4]” كما قالوا.
ارتكزت المعركة بالأساس للهيئة العُليا للقضاة والمدعين “HSYK”، المنوط بها الإشراف على امتحانات المدعين وتعييناتهم وإجراءات ترقية أو شطب القضاة، وهي هيئة اقتصرت -وفق دستور 1981- على وزير العدل ونائبه، وخمسة أعضاء دائمين وخمسة احتياطيين يعيّنهم رئيس الجمهورية وفق ترشيحات من محكمة الاستئناف ومجلس الدولة فقط، على عكس الحال في معظم الديمقراطيات الغربية التي تعتمد فيها هيئات كتلك على انتخابات تشمل كافة المحاكم وليس المحاكم العُليا فقط، ولا تضم في عضويتها وزير العدل، وتشارك البرلمانات في اختيار أعضائها[5].
بينما أخذت ملفات “أرجنكون” تنكشف للرأي العام على مدار أشهر طويلة، كشفت الهيئة عن كافة أوراقها في المعركة، حتى وصلت لمحاولة نقل أو شطب القضاة والمدعين الضالعين في فتح ملف أرجنكون، أو الذين منحوا مذكرات التوقيف وأوامر الاعتقال بحق ضباط وجنرالات الجيش وغيرهم ممن كشفت التحقيقات عن “نشاطاتهم الانقلابية”، وهي قائمة اتسعت مع الوقت وضمّت قضاة وصحافيين وكتاب.
كان “أوز” في مرمى نيران الهيئة، حيث قام “علي سعاد أرطوسون” -عضو الهيئة وأبرز وجوه “يارساﭫ” في ذلك الوقت- بإعداد قائمة بأسماء تنوي الهيئة الإطاحة بها، وتضمنت اسم “زكريا أوز” نفسه مع عدد آخر من المدعين[6]. ولم تكن هذه أول مرة تتدخل فيها الهيئة لحماية الجنرالات، إذ فعلتها عام 2006 مع المدعي “فرهاد ساريقايا”، أول من وجه اتهامات لجنرالات بالجيش في إطار قضية أخرى هي “المطرقة”، قبل أن تقرر محكمة الاستئناف إسقاط قراره وعدم أحقية محاكمة الجنرالات إلا أمام القضاء العسكري[7].
خمس سنوات قضتها الهيئة في مصارعة حزب العدالة والتنمية وإصلاحاته وحلفائه في القضاء والشُّرطة، لكنها معركة انتهت بانتصار الحزب بعد التعديلات الدستورية التي مررها عام 2010، ومعارك الإصلاحيين لإقصاء رموز الحرس القديم وتصفية “أصدقاء أرجنكون” داخل أروقة القضاء، بالتوازي مع ترقيات واسعة لهم، شملت بالطبع “زكريا أوز”، والذي وصل للنيابة العُليا بإسطنبول عام 2011 بعد جهوده في حرب أرجنكون[8].
بيد أن حكاية “أوز” لم تنتهِ هُنا -كما ظن كثيرون هو منهم- فقد نجح طرف آخر بالسُّلطة في إخراجه من السلك القضائي نهائيا خلال أعوام قليلة، وكان هذا الطرف هو حزب العدالة والتنمية بنفسه.
يبحث “أحمد شِك” دوما عن المتاعب، أو هكذا يبدو من مغامراته الصحافية المنصبة باستمرار على نشاطات الأجهزة الأمنية وعلاقتها بالجيش، وصفحات التاريخ المظلم الممتد لثلاثة عقود أو يزيد من سُلطان العسكر في تركيا. لذا لم تكن مفاجأة له حين قامت القيادة المركزية لقوات الجندرمة عام 2007 بتحريك قضية ضده بتُهمة “الإساءة للقوات المسلحة” و”تقليل الاحترام الشعبي لها” كما أسمتها، وهي تُهمة حصل على براءة منها، ودون أن تثنيه محاولة الترهيب العسكرية عن تحقيقاته تلك[9].
فعلى العكس، قرر أحمد الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك، فقد لفتت انتباهه شبكة “أرجنكون” ونشاطاتها داخل المؤسسات الأمنية، ومن ثم قرر نشر كتاب كامل عنها صدر في جزأين بالتعاون مع صحافي آخر عام 2010، وهو كتاب سرعان ما أودى بهما للقضاء مجددا بتُهمة “إفشاء أسرار قضية لا تزال محاكماتها جارية”، قبل أن يحصلا على البراءة من جديد في مايو/أيار لعام 2011.
ولسوء حظه، لم يتمتع أحمد شِك كثيرا بخبر براءته، إذ كانت أصابع القضاء قد وجهت له اتهاما جديدا سبق البراءة في مطلع مارس/آذار من العام نفسه، لكنه كان اتهاما غير مُعتاد هذه المرة، فلقد اتهمه مُدعٍ عام بالانتماء لشبكة “أرجنكون” رُغم سمعته في كشف نشاطاتها بنفسه، واتهم صحافيا آخر هو “نديم شَنر” بالتُّهمة نفسها، رُغم ما عُرف عن تحقيقات الأخير لكشف تورط الأجهزة الأمنية في مقتل الصحافي الأرمني “هرانت دينك”[10].
كان المُدعي الذي أمر بحبس الصحافيَّين هو “زكريا أوز” نفسه، والسبب -كما عُرف فيما بعد- ملف جديد لفت انتباههما في أروقة الأجهزة الأمنية وقررا خوض مغامرة صحافية لكشفه؛ وهو ملف نفوذ جماعة الخدمة التابعة لـ “فتح الله غولن” في صفوف الشرطة التُّركية. وقد عكف “شِك” صاحب المعرفة الكبيرة الآن بدهاليز المؤسسات الأمنية على كتاب بعنوان “جيش الإمام”، لكن جهوده وصلت لعلم التابعين للجماعة، ومن ثم قرروا التحرُّك لوقف نشر الكتاب.
كان “زكريا أوز” أيضا هو المدعي الذي منح الشُّرطة أمرا باقتحام وتفتيش قناة “أوضا تي في” (OdaTV) المُعارضة، بعد أن نما لعلمه وجود نُسخة أولية وإلكترونية من الكتاب لديها، لتقوم الشُّرطة بمسح كافة النُّسخ الموجودة على أجهزة الكمبيوتر بمقرها، وتحذير أي شخص يمتلك نُسخة بمواجهة تُهمة “الانضمام لشبكة أرجنكون الإرهابية”، غير أن المحاولات لم تنجح كثيرا، حيث ظهر الكتاب للنور بعد رفعه من جانب مجهولين على الإنترنت، وتحميله مئة ألف مرة خلال يومين فقط. ولم تكن تلك أول مرة تظهر فيها للسطح ارتباطات “زكريا أوز” بـ “غولن”، حيث قامت الشُّرطة وفق أوامره باقتحام مقار سبعة من الدعاة الإسلاميين المعارضين لفتح الله غولن في وقت سابق[11].
قبل أن ينتهي مارس/آذار 2011، قررت وزارة العدل ترقية “أوز” للنيابة العُليا بإسطنبول، وإزاحته في الوقت نفسه من موقعه على رأس قضية “أرجنكون”[12] بعد أن زادت الانتقادات الدولية للحكومة بخصوص بعض قرارات القضاء “المسيّسة والمعارضة لحرية التعبير” كما وُصفت، أما أردوغان فبدا وقتها أنه قد بدأ يضيق ذرعا بسُلطة الجماعة الخارجة عن نظامه، أكثر منه اهتماما بتلك الانتقادات الدولية.
2010: الكماليون والنفس الأخير
في السابع عشر من فبراير/شباط 2010، أصدر أحد المدعين أمرا بالقبض على مدعٍ آخر في خطوة هزت القضاء التُّركي. كان المُتهم هو “إلهان جيهانر”، كبير المدعين بولاية أرزينجان والمعروف بآرائه العلمانية واليسارية، أما الأمر فصدر من “عُثمان شَنال”، المدعي بإحدى المحاكم الخاصة بولاية أرضروم المجاورة، والمحسوب على حركة غولن[13]، وكان الاتهام -مرة أخرى- هو الانتماء لشبكة أرجنكون.
كانت التُّهمة الحقيقية تحقيقات جيهانر في نشاطات مجموعات دينية، منها جماعة غولن، وأبرزها جماعة “إسماعيل أغا” إحدى فروع الطريقة النقشبندية، والتي اتهمها جيهانر بامتلاك جناح مسلّح. وقد حصل جيهانر عام 2007 على قرار يسمح بالتجسس على كافة أعضاء الجماعة، كما أمر الاستخبارات المحلية بمتابعة نشاطاتها مثل “دروس القرآن غير القانونية” كما أسماها و”الفساد المالي”، وخلال عامين؛ أمر جيهانر قوات الجندرمة بالولاية باعتقال تسعة أشخاص مشتبه بهم في نشاطات غير قانونية، ووضع قائمة لـ 235 شخصا آخرين شملت رجال أعمال مقربين من الحكومة.
بعدها، أتى الرد من معسكر الحكومة على صفحات جريدة “طرف” -المحسوبة على حركة غولن- بتسريب وثيقة كتبها أحد الضباط بالبحرية -وفق ادعاء الصحيفة- بعنوان “خطة تحرُّك ضد الرديكالية الدينية”، تقوم بموجبها الأجهزة الأمنية بتلفيق قضايا للمجموعات الدينية مثل وضع السلاح في منازل تستخدمها حركة غولن، وذلك لتشويه صورة الجماعة والحكومة، والنجاح في الأخير بإسقاطهما -أو كذا قضت مخططات شبكة “أرجنكون” بشكل عام- في إشارة ضمنية من الصحيفة لاحتمالية قيام جياهنر بتلفيق الأدلة كجزء من المخطط[14].
غير أن التلفيق في تلك القضية لم ينل إلا من جيهانر نفسه في حقيقة الأمر، كما يروي تحقيق[15] صحافي كتبه أحمد شِك، فقد تلقت الشُّرطة في أرزينجان إخبارية مفاجئة بوجود سلاح في قرية بالولاية، ذهب عثمان شنال بنفسه إليها مع الشُّرطة ليكتشف مجموعة من القنابل اليدوية وقاذفات الصواريخ إلى جانب هاتف محمول وشريحة تقودان بكل سهولة -وريبة أيضا- إلى ثلاثة ضباط بالجندرمة هُم أنفسهم من شاركوا في اعتقال أعضاء جماعة إسماعيل أغا سابقا، ليتم اعتقالهم هم مباشرة.
ردّ جناح جيهانر سريعا، إذ قام المُدعي المُتهم في آن بالكشف عن تسريب لمكالمة هاتفية بين اثنين من أعضاء جماعة إسماعيل أغا يقول أحدهما فيها للآخر بأنه سمع أخبارا جيدة عن قُرب انتقال قضية النظر في نشاطات الجماعة إلى ولاية أرضروم، وهو ما حدث بالفعل حين انتقلت القضية لعثمان شنال في محكمته الخاصة هناك. وكان التسريب بمنزلة إدانة لجناح شنال والجماعة، واتهاما ضمنيا له بتدبير كل ذلك، لا سيّما الاتهام العبثي لجيهانر بالانتماء لشبكة أرجنكون وهو الذي قام سابقا بالنظر في قضايا ضد تجاوزات الأجهزة الأمنية في سنوات ما قبل أردوغان.
في تلك الأثناء دخلت الهيئة العُليا للقضاة والمدعين -تحت هيمنة الكماليين حينئذ- إلى سير الأحداث، وأعلنت سحب صلاحيات عُثمان شنال ومساعديه في محكمة أرضروم الخاصة، ليتحرك وزير العدل في المواجهة مهاجما الهيئة وتجاوزها لحدودها، ومُعلنا أن الإصلاح القضائي بات مسألة ملحة أكثر من أي وقت مضى، وهو ما تم بالفعل خلال أشهر قليلة.
في يوليو/تمّوز 2010، أقرّ البرلمان تعديلات دستورية شملت توسيع الهيئة العُليا إلى 22 عضوا؛ أربعة يختارهم الرئيس من المشتغلين بالمحاماة وأساتذة الحقوق، وسبعة يختارهم كافة القضاة والمدعين بالمحاكم الابتدائية، وثلاثة يختارهم قضاة المحاكم الإدارية، وثلاثة تختارهم محكمة الاستئناف، واثنين يختارهما مجلس الدولة، وعضو واحد لأكاديمية العدالة. وأتى التعديل متفقا مع ما قضت به توصيات الاتحاد الأوروبي من كسر اقتصار الهيئة على المحاكم العُليا، وشملت كذلك تقليص صلاحيات وزير العدل، وتخصيص ميزانية مستقلة للهيئة بعد أن كانت تعتمد على الوزارة، ومنع مثول مدنيين أمام محاكمات عسكرية، وإتاحة مثول عسكريين أمام محاكم مدنية[16].
بيد أن التعديلات لم تمس نهائيا المحاكم ذات السُّلطات الخاصة، والتي أُنشئت للتعامل مع جرائم “الإرهاب” والجريمة المنظمة بصلاحيات استثنائية، واستهدفت في السابق مسلحي حزب العمال الكردستاني، ثم اقتصرت معظم نشاطاتها أثناء تولي العدالة والتنمية للسلطة على قضيتي أرجنكون والمطرقة، في الوقت نفسه الذي تركزت فيه مجموعات كبيرة من القُضاة المرتبطين بغولن في تلك المحاكم، مثل عثمان شنال. وقد تحفظت مؤسسات الاتحاد الأوروبي أيضا على تلك المحاكم، لكن تعديلات 2010 لم تنل منها على عكس بقية التوصيات الأوروبية نظرا لأهميتها آنذاك في المعركة مع الكماليين. واكتملت الإصلاحات عام 2012 بإلغاء المحاكم بالفعل، لكن السلطات التركية لم تلغها حينئذ استجابة للتوصيات الأوروبية، بل ألغتها حين قررت إحدى تلك المحاكم تعقب رجل الاستخبارات التركي الأول، ومن يعتبره كثيرون الرجل الثاني بعد أردوغان، وبأسرع وسيلة ممكنة.
2012: كِش ملِك!
غُلاف مجلة “ﮔرﮔر” ورسم كاركاتيري يمثل الصراع بين فتح الله غولن، على اليمين، وأردوغان يسار الرسم (مواقع التواصل)
ترجمة الكاركتير: “أردوغان: لقد حصلت على كافة البيادق الخاصة بك! — غولن: ستدفعني لأخذ الملك الخاص بك إذن يا ولدي!”.
قامت القوات الجوية التُّركية بهجوم على منطقة أولودَره بولاية شرناق الحدودية مع العراق في ديسمبر/كانون الأول 2011، لتقصف ما اعتبرته مجموعة من المقاتلين التابعين لحزب العُمّال الكردستاني. ولم تلبث السحب أن انقشعت عن الضربة الجوية ليظهر للسطح خطأ فادح بخصوص هوية المستهدفين. لقد كان جميعهم مدنيين أكراد يهرّبون بضائع فقط ليس إلا عبر الحدود مع العراق، وقُتِل منهم 35 شخصا في تلك الليلة[17].
سرعان ما وُجِّهَت سهام الاتهام للحكومة والقوات المسلحة، وسرعان ما تم إيفاد المحققين لموقع الحادث، ونُشرَت الصحف صبيحة اليوم التالي بعناوين غاضبة وحزينة في آن، منها صحيفة يني شفق المقرّبة من العدالة والتنمية بعنوان “خطأ قاتل”، ومنها “حريَّت” الصحيفة العلمانية الأكبر بعنوان “35 قتيلا، الحزن يصيبنا جميعا”، لكن صحيفة “زمان” الأكثر توزيعا وقتها والمحسوبة على حركة غولن، ودونا عن بقية الصحف، نشرت تغطيتها بعنوان خارج السرب وضع الاستخبارات في موضع المسؤولية مباشرة: “استخبارات قاتلة”[18].
كانت الفُرصة مواتية جدا للجماعة لتوجيه سهامها صوب الاستخبارات التركية، إذ امتلكت الأخيرة علاقات متوترة مع جهاز الشُّرطة في تلك الفترة لأسباب عدة، أبرزها انفراد الحكومة والاستخبارات معا بالملف الكُردي عبر مفاوضات رئيس الاستخبارات “هاكان فيدان” مع قيادات حزب العمال الكردستاني، بما في ذلك زعيم الحزب عبد الله أوجلان المقبوض عليه في أحد السجون التُّركية، حيث تمت مفاوضات سرية بين الطرفين في العاصمة النرويجية أوسلو، بين عامي 2009 و2011، لم تعجب الموالين للجماعة في القضاء والشُّرطة ممن رأوا ذهاب الحكومة بعيدا في قبول بعض شروط حزب العمال.
خلال شهرين، كانت تركيا على موعد مع تحرُّك صريح وغير مسبوق من الجماعة بوجه الاستخبارات، إذ انطلقت من إحدى المحاكم الخاصة بإسطنبول دعوى ضد “هاكان فيدان” وثلاثة مسؤولين آخرين بالاستخبارات، تطلب حضورهم في المحكمة والادلاء بشهادتهم كمشتبه بهم في تحقيقات بخصوص اتحاد اللجان الكُردية (KCK) -الذراع الاجتماعي لحزب العمال الكردستاني المؤسَّس عام 2005-، متّهمين إياهم بالضلوع في هجمات حزب العمال “الإرهابية” عن طريق موظفي الاستخبارات الذين كُلّفوا سابقا باختراق اتحاد اللجان، وهي تُهمة غير منطقية أو عقلانية بحال كما أشار المحلل التُّركي المرموق “خليل قره ولي”[19].
كان الهدف السياسي خلف الدعوى القضائية هو عرقلة عملية المفاوضات الجارية، وهو الهدف نفسه الذي شرع من أجله قضاة وضباط منتمون لحركة غولن بشن حملة اعتقالات واسعة في صفوف صحافيين وأكاديميين ونشطاء أكراد على علاقة باتحاد اللجان الكُردية أثناء مفاوضات الحكومة معها، وفق ما صرّح به صلاح الدين دميرطاش -رئيس حزب الشعوب الديمقراطي الكُردي حاليا- في نوفمبر/تشرين الثاني 2011، متهما الحزب الحاكم آنذاك بـ “فتح الأبواب أمام الجماعة” كما قال[20].
بدوره، رفض “فيدان” المثول أمام المحكمة، مما دفعها لإصدار مذكرة اعتقال بحقه في استكمال لمسار الخطوات غير المسبوقة، لكن النظام التركي قرر الرد سريعا حين تقرر إعفاء المُدعي “صدر الدين ساريقايا” من ملف القضية، وهو المدعي نفسه المسؤول عن ملف اتحاد اللجان، ثم نقل اثنين من الضباط الكبار بشُرطة إسطنبول المسؤولين عن التحقيقات في نشاطات اتحاد اللجان. أما فيدان ورفاقه فتم تحصينهم بتعديل القانون الخاص بموظفي الاستخبارات في البرلمان، حيث منحهم التعديل[21] حصانة قانونية علاوة على أي موظف بالحكومة يقرر رئيس الوزراء بأنه “في مهمة خاصة”.
رد ساريقايا من جديد بشن حملة اعتقالات جديدة في صفوف اتحاد اللجان الكردية[22] عبر المحاكم الخاصة، ليقرر الحزب الحاكم في الأخير المُضي قُدما بالقضاء على تلك المحاكم تماما، حيث مرر نوّاب الحزب في البرلمان تعديلات على المادتين 250 و251 من قانون العقوبات، والذي تعتمد عليه تلك المحاكم في “سُلطاتها الخاصة” كما تسمى، لينتهي الأمر بإلغائها[23] في يوليو/تمّوز 2012 رُغم الحملة المضادة التي شنتها المنابر الإعلامية الموالية لجماعة الخدمة، والتي استُخدِم فيها التخويف من عودة الجنرالات للانتقام إذا ما ألغيت المحاكم، في محاولة لتوجيه الرأي العام المحافظ الذي يعتمد عليه الحزب ضد قرار الإلغاء كما تشير الصفحة الأولى لصحيفة زمان أدناه.
صحيفة زمان المحسوبة على الجماعة (عدد 5 يونيو/حزيران 2012) تنشر عنوانها الرئيس عن تسريب لأحد الجنرالات المتهمين في قضية المطرقة يقول فيه: “هنالك عفو عام قادم، وسنحاسب الجميع”، وفي أسفل يمين الصورة خبر عن إلغاء المحاكم الخاصة، والعنوان ترجمته: “إلغاء المحاكم الخاصة سيأخذ البلاد للفوضى”، وأسفل الخبر تصريح لقاضٍ عسكري متقاعد يقول: “لولا المحاكم الخاصة لما استطعنا مواجهة العصابات”.
ظهر التباين أيضا لأول مرة بين الحكومة والجماعة في ملف أرجنكون حين قام المدعي المحسوب على الجماعة جيهان كانسز بإصدار مذكرة اعتقال بحق رئيس الأركان السابق إلكر باشبوغ في يناير/كانون الثاني 2012 بتُهمة الضلوع في نشاطات أرجنكون، إذ استشعر كثيرون تجاوزا واضحا في اعتقال باشبوغ، بدءا من أردوغان، الذي طالب بمحاكمة باشبوغ دون حبسه ورأى عدم أحقية اعتقاله، وحتى صحافيين ومحللين اعتبروا المسألة مجرد استعراض الجماعة لسُلطانها شبه المُطلق إلى حد اعتقال رئيس أركان سابق في دولة بدأت لتوّها بالفكاك من حكم العسكر[24].
كان اعتقال باشبوغ وتباين المواقف حياله بداية تحوّل جديد وصل لذروته في العام التالي؛ حيث تراجعت الحكومة عن تمسُّكها سياسيا بقضية أرجنكون وقد تحوّلت تلك القضية لمجرد أداة بيد الجماعة، بل وبدأت الحكومة تبني نهج تصالحي مع الكماليين، مقابل الالتفات لرجال جماعة غولن داخل القضاء والشُّرطة. ومن ناحيتها، بدأت الجماعة بالاستعداد للحرب القادمة عبر قضية جديدة أشد إيلاما للنظام التركي، واختارت زكريا أوز -مجددا- ليفتحها بنفسه في 17 ديسمبر/كانون الأول 2013.
2013-2014: إذن هي الحرب!
يجلس زكريا أوز في مكتبه بالنيابة العُليا بإسطنبول، على أهبة الاستعداد لفتح ملف جديد يُشعل به السياسة التُّركية ويقلبها رأسا على عقب. لم يكن الملف هذه المرة عن العسكر أو الاستخبارات، بل عن رجال أردوغان الكبار في الحكومة بشكل مباشر. لقد قرر أوز فتح ملفات أسماها “الفساد الحكومي”، واختار 52 اسما شملت كافة مستويات السُّلطة التنفيذية؛ أربعة وزراء بالحكومة، ورجلَيْ أعمال مقربين منها، وعُمدة بلدية “فاتح” المؤثرة بإسطنبول، ومدير بنك “خلق” المملوك للدولة، وموظفين بهيئة التنمية العمرانية، وآخرين غيرهم.
لكن الأنظار توجهت كلها صوب رجل الأعمال الإيراني “رضا ضرّاب”، إذ اتُّهم بتعاملات مالية مشبوهة أثناء وساطته بين تركيا وإيران في صفقات “الغاز الإيراني مقابل الذهب التُّركي”، وهي صفقات تمت بحسب الاتهامات لتتمكّن الحكومة التركية من تجاوز منظومة العقوبات الدولية المفروضة على إيران، والتي التزمت بها أنقرة كجزء من التحالف الغربي، وهي صفقات كان “خلق بنك” جزءا منها أيضا كما اتضّح، علاوة على مبلغ 4.5 مليون دولار وجدته الشُّرطة في منزل “سليمان أصلان” مدير البنك[25].
اتجهت التحقيقات أيضا صوب مصطفى دمير عُمدة بلدية فاتح لموافقته على بناء فندق بالقُرب من خط مترو مرمراي، رُغم تحذيرات الشركة الهندسية اليابانية من احتمالية تأثير ذلك على نفق المترو، ثم لأبناء وزراء الداخلية والاقتصاد والبيئة لتلقيهم رشاوى وضبط كميات كبيرة من الأموال في منازل بعضهم. وكان مدع آخر بنيابة إسطنبول ومحسوب على الجماعة -هو معمّر أكّاش- على وشك فتح ملفات فساد أخرى تخُص بلال أردوغان ابن رئيس الوزراء، لكن الحكومة بدأت برد كل تلك الضربات سريعا.
بدأت الحملة المضادة من الموالين للعدالة والتنمية في صفوف الشرطة والقضاء، وهي عملية أسماها الإعلام الموالي للحكومة بـ “العملية 17 ديسمبر” و”انقلاب 17 ديسمبر”، وبدأت أولا برفض قيادات في شُرطة إسطنبول تنفيذ الاعتقالات بحق المتهمين، وثانيا بقيام أحد المدعين بسحب ملف القضية الثانية من المُدعي المُنتمي للجماعة معمّر أكّاش[26]، وأخيرا بإشراف وزارة الداخلية على حملة إقالات في جهاز الشُّرطة الخاضع مباشرة لها لإقصاء الأسماء الموالية للجماعة.
تلا ذلك قيام الهيئة العُليا للقضاة والمدعين، برئاسة وزير العدل، بالنظر في “مخالفات” قام بها قضاة ومدعون، وهي تحرُّكات تلاها في فبراير/شباط 2014 نقل زكريا أوز من إسطنبول لولاية بولو الصغيرة، وتعيين ثلاثة مدعين كبار جدد في المدن الثلاث الكبرى[27] “إسطنبول وأنقرة وإزمير”، علاوة على تجمُّع مجموعة من الموالين للحكومة في القضاء لتشكيل تكتُّل قضائي جديد هو “منبر الاتحاد”، منبر شرع في الاستعداد لانتخابات اختيار أعضاء الهيئة العُليا بين العاملين بالسلك القضائي وفق تعديلات 2010.
اختلطت الأوراق وتفرقت صفوف جماعة “غولن” نسبيا في القضاء، وكانت أبرز تبعات هذه المرحلة انقلاب الطاولة في قضيتي أرجنكون والمطرقة، وبداية تسليط الضوء على الكثير من الأدلة المُلفقة والمُبهمة التي سيقت ضد عشرات من ضباط الجيش في السنوات الأخيرة، ومن ثم شهدت تركيا حملة عفو وإفراج واسعة على يد قُضاة جدد تسلّموا مهامهم وملفاتهم الجديدة، إذ أعلن الإفراج عن معتقلي أرجنكون والمطرقة في مارس/آذار، بما في ذلك رئيس الأركان السابق إلكر باشبوغ[28]، وكذلك الصحافيَّين أحمد شِك ونديم شَنر[29].
في سبتمبر/أيلول، فُتحت صناديق الانتخاب أمام نحو 12 ألف قاض ومدع لاختيار نحو نصف أعضاء الهيئة العُليا للقضاة والمدعين، ليخرج تكتُّل “منبر الاتحاد” منتصرا ويقتنص ثمانية من أصل عشرة مقاعد، في حين حصل مستقلّان على مقعدين. ورُغم موالاته السياسية للحزب الحاكم، فإن التكتُّل لا يتكوّن في الحقيقة من منتمين للحزب أو من “مُحافظين دينيا” كما يُسمّون، بل تكوّن -كما أشار الكاتب الصحافي طه أقيول- من مجموعة متنوّعة ضمّت قوميين وديمقراطيين اجتماعيين وبعض العلمانيين ممن جمعهم العداء مع حركة غولن، فالمُدعي العام متين ياندرماز، الفائز بالعدد الأكبر من الأصوات في الانتخابات، كان مشتبها به سابقا في قضية أرجنكون[30]، ومدعوما من كُتلة يارساڤ الكمالية في الانتخابات السابقة.
بحلول نهاية العام 2014، كان معظم المُدانين في أرجنكون قد خرجوا على خلفية أدلة واهية اعتقل بعضهم بسببها، ليبدأ التقارب بين الحكومة والكماليين، مقابل خروج العشرات من أتباع الجماعة من مناصبهم في الشُّرطة والقضاء أو نقلهم لولايات أخرى، أما العدالة والتنمية فقد أحكم قبضته على القضاء عبر حلفه الوليد، ثم مرت بضعة أشهر فقط مع العام التالي وبدت الأمور وكأنها انقلبت رأسا على عقب؛ لقد بات هنالك حلفاء جدد للحكومة كانوا ينعتون فيما مضى بـ “الانقلابيين والإرهابيين”، في حين انتقلت تُهمة الإرهاب والوصاية على الديمقراطية للأصدقاء القدامى ممن باتوا يُعرفون منذ مارس/آذار 2015 بـ”تنظيم فتح الله الإرهابي” (FETÖ).
2015-2016: الانتقام من الانتقام
في نهاية العام 2014، مرر البرلمان التُّركي[31] قانونا جديدا هو القانون 6572، تضمّن خطوة لاقت اعتراضا من القضاة المستقلين؛ وهي زيادة عدد قاعات محكمة الاستئناف ومجلس الدولة، وإضافة أعضاء جدد بلغ عددهم 129 قاضيا إضافيا في محكمة الاستئناف، و39 قاضيا في مجلس الدولة. بيد أن الهيئة العُليا للقضاة والمدعين -تحت هيمنة تكتُّل “منبر الاتحاد” الآن- لم تُبد أي اعتراض على خطوة الحزب الحاكم في البرلمان، وقامت بتعيين القضاة الجدد كما نصّ القانون.
كانت زيادة أعضاء المحاكم العُليا محاولة من الحزب -على غرار تعديلات 2010- لفتح القضاء بشكل أكبر أمام نفوذ صغار القضاة -الأكثر تمثيلا لمختلف الشرائح الاجتماعية جغرافيا وثقافيا بطبيعة الحال-، ومن ثم فرض تشكيلة قضائية تكسر هيمنة طرف بعينه على المحاكم العُليا، لا سيّما مع حاجة الحكومة إلى الكثير من القضاة والمدعين القدامى الذين أشرفت على إقصائهم سابقا أثناء قضيتي أرجنكون والمطرقة لملء فراغ المناصب العُليا، وهي مجموعة لم تأمن لها الحكومة تماما رُغم التحالف الجديد معها.
مع بداية إعلان حركة غولن تنظيما إرهابيا في مارس/آذار 2015، تداخل اتجاهان سياسيّان معا في صفوف القضاء، الاتجاه الأول كان تبني الحكومة لتصفية الجماعة داخل مؤسسات الدولة كلها، بل وبدء الضغط على نشاطاتها الاجتماعية بشكل عام، والاتجاه الثاني تبلور في حملة انتقامية من جانب “ضحايا أرجنكون” سابقا بعد عودتهم لمقاعدهم؛ اتجاه يُعزى له في الحقيقة قرار تسمية الجماعة بـ”التنظيم الإرهابي” -كرد على ما قامت به معهم- وهو رأي يدعمه تسريب قديم مثير للانتباه يعود للعام 2009.
في الثاني عشر من يونيو/حزيران 2009، نشرت صحيفة طرف المحسوبة على الجماعة تفاصيل خطة لأرجنكون بتصفية نشاطاتها وإقصاء أعضائها من الدولة زعمت أنها وجدت وثائق تدل عليها، وأن المخطط تضمن تلفيق تُهم حيازة الجماعة للسلاح، ثم ملاحقتها قضائيا باسم “تنظيم فتح الله الإرهابي المسلح” (FSTÖ)، وهو اسم يختلف بشكل بسيط عن ذلك الذي عُرفت به بعد ست سنوات (FETÖ).
الصفحة الأولى لصحيفة طرف (عدد 12 يونيو/حزيران 2009) بعنوان “خطة القضاء على حزب العدالة والتنمية وغولن”، وأسفل يمين الصفحة مخطط ملاحقة الجماعة تحت اسم (FSTÖ) (مواقع التواصل)
لا نعلم على وجه اليقين مدى صحة الوثائق التي وجدها أنصار الجماعة آنذاك بالنظر لقيامهم بتلفيق بعض الأدلة الخاصة بأرجنكون كما كشفت التحقيقات فيما بعد، وإن كانت ثمة مبالغة مرة أخرى فيما يُقال اليوم بأنهم قاموا بتلفيقه، بيد أن التشابه يثير الكثير من علامات الاستفهام على مدى نفوذ القضاة القدامى بعد عودتهم، وما إن كانوا هُم مَن فرض التصعيد بوجه غولن بهذا الشكل، في حين اقتصر خطاب الحكومة حتى نهاية العام 2015 على تسمية الجماعة بـ”الدولة الموازية” (PDY).
يؤكّد تلك الفرضية ما ذهبت له الصحافية الليبرالية بارتشن ينانتش في مقال نشرته في مايو/أيار من 2017 بصحيفة حريّت بعنوان “عودة قوميي أرجنكون المتطرفين بدلا من تنظيم فتح الله الإرهابي”، والذي تشير فيه إلى مسؤولية تلك المجموعة القومية عن حملة التصفية، ليس فقط لعناصر غولن كما هو متوقع، بل وكذلك للنشطاء والسياسيين الأكراد، وللكثير من الصحافيين وموظفي الدولة اليساريين والليبراليين الذين طالما كنّوا لهم عداء شديدا طوال السبعينيات وصل أحيانا للمواجهات المسلحة في الشارع[32].
“لقد عادت القوى نفسها التي عرقلت تحوّل تركيا الديمقراطي خلال الثمانينيات والتسعينيات كما كانت، وهُم ماضون على قدم وساق لسحق ديمقراطيي تُركيا”، كذا كتبت بارتشن في مقالها، دون أن تشير بالضرورة إلى أي من المعسكرين ينتمي أردوغان وحزبه الآن في رأيها؛ معسكر الديمقراطيين الذين عانوا طويلا من ويلات تلك “القوى”، أم معسكرهم هُم بعد أن اجتذبهم لمداره، واجتذبوه هُم لمدارهم في آن.
2017-2018: لعبة لا تنتهي
بعد شهرين من إعلان الجماعة تنظيما إرهابيا، أعلنت الهيئة العُليا للقضاة والمدعين شطب زكريا أوز، ومن ثم فرّ أوز[33] خلال أسابيع لأرمينيا عبر جورجيا ومنها إلى النمسا، ولحقه كذلك معمّر أكّاش، وجيهان كانسز[34] -المُدعي الذي أمر بحبس الجنرال باشبوغ- ومئات آخرون على مدار عامين لم يقتصرا على القضاة، بل وصحافيين محسوبين على الجماعة مثل العاملين سابقا في صحف زمان وطرف، علاوة على المنتمين للجماعة في الشُّرطة، ثم الجيش بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو/تمّوز 2016.
لم يستطع الجميع الهروب بطبيعة الحال، ومن ثم لقوا مصيرهم بالاعتقال، مثل المُدعي عثمان شنال[35] صاحب واقعة أرزينجان المذكورة آنفا، وفرهاد ساريقايا أول من فتح ملف قضية المطرقة وشُطِب كما ذكرنا أيضا من الهيئة الخاضعة لهيمنة الكماليين وقتها، إلا أن ساريقايا بالتحديد حاول أن يتنصّل بإطلاق العنان لتصريحات أثارت بعض الجدل في أغسطس/آب 2016.
في حوار مع قناة سي إن إن تورك، صرّح ساريقايا بأنه لم يكن على دراية كاملة بالفعل بأوراق القضية التي فتحها قبل نحو عقد كامل، وأن بعض رجال الجماعة زجّوا بأوراق بعلمه حينها، لكنه أشار أيضا بأصابع الاتهام إلى نائب أردوغان سابقا السياسي المرموق بولنت أرِنتش -البعيد عن المشهد السياسي منذ بدء الحرب على الجماعة- قائلا بأنه تلقى منه تكليفات بالمُضي قُدما في التحقيقات[36]، وهو تصريح أخذته القناة على موقعها عنوانا رئيسيا للموضوع.
قليلة هي المرات التي يُشار فيها إلى روابط الجماعة بالحزب قبل اصطدامهما، إذ يقتصر التحالف الواقف خلف أردوغان في القضاء والشُّرطة حاليا على التفتيش وراءها في البيروقراطية، لكن الحزب نفسه لا يبدو وأنه سيسلم تماما من النيران كما تشير أخبار التراشق السياسي القادمة من أنقرة.
خلال صيف 2017، أطلقت محكمة بإسطنبول سراح عُمر كاورماجي -زوج بنت عُمدة إسطنبول قدير طوباش- رُغم علمها بصلاته بالجماعة، معللة قرارها بمشكلاته الصحية -نتيجة تشخيصه بالصرع عام 2005- مما فتح باب الانتقادات للحزب، انتقادات بدأها رئيس حزب الحركة القومية، الحركة التي تمثل الغطاء السياسي للمجموعات القومية وبعضها متداخل مع قضية أرجنكون، إذ صرّح في اجتماع مع أعضاء حزبه بالبرلمان عن استغرابه الشديد من “توجيه تُهم الانضمام للجماعة للآلاف في كافة مناحي الدولة، دون أن يتم توجيه التُّهمة لسياسيّ واحد” كما قال[37].
فتحت قضية كاورماجي ملفا مسكوتا عنه منذ بدء الحرب بين الحزب والجماعة؛ البحث عن آثار أنصار غولن داخل حزب العدالة والتنمية نفسه، وهو ملف حسّاس يخشى الحزب من تحوّله إلى حملة لضربه وإضعافه سياسيا، في سيناريو منطقي قد يجمع القضاة القدامى العائدين لمناصبهم والكماليين الموجودين بحزب الشعب الجمهوري وداخل القضاء بشكل مستقل، ومن ثم تعود اللُّعبة لما كانت عليه عام 2002.
“المدعون يجدون أتباع غولن في كل مكان إلا في الحزب”، هكذا كتب متسائلا الصحافي مراد يتكين في مقالة له بصحيفة حريَّت، رافعا علامات استفهام على الاتهامات ضد أكاديميين يساريين بتُهمة الانضمام للجماعة، وهي اتهامات طالت -مجددا- الصحافي أحمد شِك المعتقل منذ عام 2016، في حين ينأى القضاء عن توجيه أي اتهامات لأعضاء الحزب رُغم تحالفه الطويل مع الجماعة، وهي حقيقة ألمح لها يتكين عبر أردوغان نفسه، مشيرا إلى قيام أردوغان بتخصيص سيارة مصفحة من الحكومة لحماية زكريا أوز خلال سنواته الأولى[38].
يتحالف الحزب مع كثيرين، لكنه لا يثق بأحد كما تشي تقلبات السياسة المستمرة منذ 15 عاما، وهو يعلم مدى خطورة الإتيان بشبكة أرجنكون بديلا عن الجماعة، وسهام الانتقام التي قد تلتف له ولحزبه في يوم وليلة، لكنه يرى فيها -بعد إضعافها لسنوات- طرفا يحتاج إليه أكثر مما تحتاج إليه، لا سيما وقد ترسخت هيمنته في ظل انعدام البدائل السياسية. غير أن التعديلات القانونية التي تمت في السنوات الأخيرة، وقلّصت استقلال السُّلطة القضائية، تكشف استمرار انعدام الثقة بين السُّلطة التنفيذية والسُّلطة القضائية والتي اتسم بها معظم تاريخ الجمهورية التركية، ورغبة العدالة والتنمية بإضعاف قدرة القضاء على الوصاية من الأساس، وإن كان ذلك له ثمنه المعروف باحتمالية عالية لتسييس القضاء.
سنوات طويلة سيحتاج إليها الحزب قبل أن تؤتي التعديلات أُكلها، وتظهر أجيال من القضاة أكثر تنوّعا في انتماءاتها من الاقتصار على جماعة واحدة، ومن ثم أكثر ولاء للحزب بقواعده الشعبية، فيما يحب دوما أن يشير إليه بدمقرطة القضاء، أي تحويله لمنظومة ديمقراطية حديثة، لكن المعارضون يرونه بطبيعة الحال خضوعا لنظام رئاسي تنفيذي يماثل للمفارقة نمط الحُكم في عهد أتاتورك. وفي تلك السنوات، لا يمكننا توقع وقوف الجماعة مكتوفة الأيدي أو انتهاء خطرها، وهي التي شاركت بدرجة ما في محاولة انقلاب عسكري قبل عامين، بل ولا يمكننا توقّع رضا المنتمين لشبكة أرجنكون سابقا بما حصلوا عليه من تصفية الجماعة دون المساس بالحزب الذي أشرف بنفسه على حملة إقصائهم من الدولة خلال العقد الأول من الألفية.
نحو 2023: جمهورية جديدة.. وقديمة أيضا
في الثامن عشر من مايو/أيار 2017، فتح المُدعي بمدينة إسطنبول أرطغرل ساريار تحقيقا بخصوص مجلة “درين تاريخ” متهما إياها بإهانة أتاتورك مؤسس الجمهورية، وأصدر أمرا برفع كافة نُسخ عددها الأخير حينها من السوق حتى ينتهي التحقيق. كانت المجلة قد نشرت على غلاف عددها موضوعا عن حياة أتاتورك الخاصة وقد كُتب عليه قول منسوب لزوجته “لطيفة هانم” تقول فيه بأن زوجها كان “نابليون في تعاطي الكحول” في إشارة إلى شدة إقباله عليه[39].
لا يزال العمل في تركيا ساريا بالقانون 5816 والذي يجرّم أي إساءات لمؤسس الجمهورية بعقوبات تصل للسجن ثلاث سنوات، إلا أن العمل بالقانون -كغيره من القوانين المبهمة والشائكة سياسيا في آن- يتوقف على رؤية القاضي وانحيازاته أيضا في أحيان كثيرة؛ انحيازات يعج بها تاريخ القضاة في تركيا بالنظر إلى الأسس الأيديولوجية الصلبة والمثيرة للخلافات التي قامت عليها الجمهورية.
كان مصطفى أرمغان، رئيس تحرير المجلة، واثقا على الأرجح بأن زمن تلك المحاكمات قد ولى وهو يعطي موافقته على طباعة ذلك العدد، لا سيّما وأنها مملوكة لمجموعة بيراقدار الإعلامية المقرّبة من أردوغان[40] والتي وقفت إلى جانبه أثناء محاولة الانقلاب الفاشلة. بيد أن أرمغان وكُتّاب مجلته المتيّمين بالتاريخ العثماني والناقدين لتاريخ الجمهورية لم يكونوا على دراية شاملة بقواعد اللعبة بعد عودة الكثير من رجال أرجنكون إلى ارتداء الياقات الحمراء والجلوس على مقاعدهم المفضلة في أروقة المحاكم، وهم نفسهم الذين أعادوا تركيا إلى زمن ملاحقة النشطاء الأكراد التي وصلت لأوجها في التسعينيات، وكذلك ملاحقة الكثير من الحقوقيين والصحافيين الليبراليين واليساريين والتي وصلت لأوجها هي الأخرى خلال السبعينيات.
للمفارقة إذن، تبدو أشباح متفرقة من سبعينيات الحياة السياسية وتسعينياتها وهي تُلقي بظلالها من جديد في اللحظة نفسها التي يُفترض أن تكون فيها “تركيا الجديدة” كما تُسمى على وشك الولادة. سُنة سارية منذ عقود في تلك الجمهورية والتي طالما حملت تلك التناقضات بين تطلعاتها نحو المستقبل من ناحية والأنفاق المظلمة لدولتها العميقة بصراعاتها العنيفة والتي صاحبت تلك التطلعات وعرقلتها في آن. تأبي الدولة التركية بمُثُلها الجمهورية إلا وأن تفتح الباب باستمرار لوجوه جديدة تكتب تاريخها في كل عقد على عكس جيرانها في الشرق الأوسط ممن رزحوا عقودا تحت قبضة أسماء قليلة طويلة العمر، بيد أنها تأبي أيضا بطبيعتها الصلبة أن تتغير قواعد اللعبة فيها.
يتغيّر إذن الوزراء والملوك ولكن تبقى رقعة الشطرنج على حالها، وتظل ملامح الصراعات السياسية مألوفة بينما تمتزج بها بغرابة دماء جديدة. مرور سريع على بضع صحف وعناوين من عقود تركيا السالفة كفيل بأن يترك هذين الانطباعين معا، فمعظم أسماء الحياة السياسية في التسعينيات لا تمت بصلة لكل ما يدور منذ العام 2002، تماما كما باتت أسماء القضاة المعروفين حتى العام 2015 في طي النسيان، غير أن الكثير من ملامح الدولة والصراعات فيها بين الأجنحة القضائية والاستخباراتية والعسكرية، والقضاء كباحة خلفية للسياسة، تظل كما عهدناها. يقترب العام 2023 حاملا معه وعد الحزب الحاكم بأن تكون تركيا معه تركيا جديدة؛ وعد لن يتحقق بالكامل على الأرجح، لتظل الجمهورية على وعدها نصف الزائف كما عودتنا، بأن يكون المستقبل فيها متجها نحو قطيعة مع الماضي.
الجزيرة