ربما لا يعرف الذين يثيرون الحديث عما يسمى بمذبحة الأرمن أن ثأر الأرمن لهذه المذبحة قد تم على نحو لم يشهد التاريخ له مثيلا، وربما كان من المفيد إلقاء الضوء عليه ومن ثم تشجيع السعي الدولي الجاد (وليس المنافق) إلى تطبيقه في كل مذبحة مماثلة تطبيقا لما قالت به التوراة وجاء القرآن الكريم مصدقا به.
ومع أني لستُ بالطبع من أنصار أي دفاع عن أيٌ مسئول عن أيٌ مذبحة حتى لو كان ضحايا المذبحة شخص واحد فإنني معني في المقام التاريخي السياسي ببيان وجه المُغالطة في التعريف الأمريكي أو الغربي السائد الآن للحديث عن مذبحة الأرمن فهذا التعبير في سطره الأول يُشير بطريقة حصرية مُحدٌدة إلى أن مذبحة الأرمن تُشير إلى “القتل المُتعمٌد والمنهجي للسكان الأرمن من قبل الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى..” وفي هذا التعريف قدر “مُطلق” من المُبالغة الخاطئة ولا نقول قدر “كبير” من المُبالغة الخاطئة فنحن نعرف بكل وضوح أن الحرب العالمية الأولى انتهت بزوال الدولة العثمانية على يد الاتحاديين الانقلابيين من داخلها وعلى يد الحلفاء من خارجها بل هكذا تُردٌدُ الأدبيات الغربية كلٌها، فكيف تكون الدولة العثمانية مسئولة عما حدث بعد زوالها؟ دعك من أن تكون حكومة مصطفى كمال أتاتورك أو حكومات تركيا في 1990أو 2000 أو 2010 أو 2020 مسئولة عن هذه المذبحة؟
تجديد الحديث عما يسمى بمذابح الأرمن أصبح في حقيقته ورقة ضغط ضد أي تقدٌم تركي مُستقبلي، بل إن من العجيب أن مُصطلح الإبادة الجماعية نفسه قد اختُرع لوصف هذه الأحداث
لا تُنكر الأدبيات التاريخية الغربية أن جمعية الاتحاد والترقي استولت على الحكم على خطوتين سريعتين 1908 / 1909 ومارست الحكم المطلق منذ ذلك الحين وحتى نهاية الدولة العثمانية كما مارست طيلة هذه الفترة العبث العسكري والرهق السياسي حتى أضاعت الدولة العثمانية لكن الاتهامات لا تُوجٌهُ إلى حكم هذا الحزب السياسي / الجمعية ولا إلى أقطابها ولا إلى الانقلاب العسكري التركي الذي حكم بموجبه الباشوات الثلاثة وإنما توجه إلى ذكرى كيان انتهى هو الخلافة العثمانية.
وقد كان من العجيب أن الهمٌ الأكبر الذي شغل العسكر الأتراك الانقلابيين بعد دخولهم الحرب العالمية الأولى كان هو مواجهة خيانة مواطنيهم الأرمن لهم حيث انضم بعض هؤلاء الأرمن بطريقة غادرة إلى الروس وقتلوا مواطنيهم المسلمين المدنيين في الأناضول الشرقية.. وهكذا رأى العسكر الانقلابيون بحكم عقليتهم العسكرية الصرفة أن ينشغلوا بتأديب الأرمن واتقاء شرهم، وأن يعلوا من شأن هذا الهدف على أي هدف آخر من قبيل أن يحموا حدود الدولة العثمانية في العراق وبلاد الشام والحجاز ومصر.
ومن المؤكد أن هذه الأحداث كانت نشازا في سياق العلاقات الإسلامية بالمُخالفين في العقيدة على مدى ستة قرون من حكم العثمانيين وضعفها من حكم المسلمين لكنٌها كانت تعبيرا مُتوقٌعا من العسكريين عن ضيق أفقهم وحدة خلقهم، ومع أن العسكر الانقلابيين هم الذين أداروا ما سُمٌي بمذبحة الأرمن، فإن المُجتمع الغربي لا يزال حتى هذه اللحظة يستثمر هذه المذبحة في التنغيص على تركيا المدنية الديموقراطية في لحظات تجلٌيها السياسي وازدهارها الاقتصادي بل يتخابث هذا المجتمع في نسبة هذه المذبحة إلى الإسلام وربما إلى سياسي معاصر من قبيل أردوغان الذي لم يكن بالتأكيد قد وُلد حتى ذلك التاريخ، وربما لم يكن والده قد بلغ سن الرشد.. لكن الطريقة الإمبريالية في عداوة النجاح لا تجد مناصا من سلوك هذا المسلك الانتهازي المُغالط من أجل استنزاف طاقة كل مجتمع ناهض في المعارك المشوهة للتاريخ الحقيقي، ولو أن الانقلاب العسكري التركي الأخير كان قد نجح ما انفتح هذا الموضوع.
من الثابت مرة أخرى أن كل الحديث عن هذه المذابح يمتدٌ ما بين 1914 وعام 1923 حين كان حكم العثمانيين الفعلي قد انتهى وبدأ الحكم الانقلابي العسكري في 1909. وهكذا نفهم أن تجديد الحديث عما يسمى بمذابح الأرمن أصبح في حقيقته ورقة ضغط ضد أي تقدٌم تركي مُستقبلي، بل إن من العجيب أن مُصطلح الإبادة الجماعية نفسه قد اختُرع لوصف هذه الأحداث، بل نشأت جمعيات دولية باسم “الجمعية الدولية لعلماء الإبادة الجماعية” ومن الجدير بالذكر أن هذه الجمعية وأمثالها لم تُعن على الإطلاق بما حدث على يد العسكر الذين صنعهم الغرب ووجّههم في مذابح العشرية السوداء في الجزائر أو في مذابح الأسد في سوريا أو في مذبحة رابعة وأخواتها في مصر.
على الرغم من أن جمال باشا السفٌاح قتل العشرات من خيرة رجال العرب فإنه لم يعاقب إلا بيد الأرمن، وقد قُتل كما قتل كل طاغية انقلابي، وجاء قتله على يد أرمني معروف الاسم ضمن عمليات مُخطٌطة ومهندسة ومُموٌلة نفذها الأرم
أما الأرمن أنفسهم فقد ثأروا لأنفسهم في وقتها، وكان بعض ثأرهم من خلال مذابح بشعة، لم يتحدث ولن يتحدث عنها أحد. أما موقفهم من القادة العسكريين الأتراك الذين تولوا الأمر في هذه المذابح فمن المعروف أنه حقق لهم بلغة الثأر كل ما يبتغون إذ استطاع الأرمن مبكرا ووفق خطة صارمة قتل كل القادة الذين أمروا بما يسمى مذابح الأرمن بلا استثناء. وعلى سبيل المثال فقد شارك جمال باشا السفٌاح وزير الحربية فيما عُرف تاريخيا بمذبحة الأرمن، ومن العجيب أن جمال باشا نفسه بل وطلعت باشا قائده أو قائد القيادة الثلاثية لقيا مصرعهما على يد الأرمن، وهو أقوى ثأر يُمكن إنجازه في مثل هذه المذبحة، لكن الاستثمار الغربي للمذبحة لا يزال يجري على قدم وساق إلا أن يكون لإسرائيل مصلحة عند تركيا فعند ذاك يخفُت الحديث عن مذبحة الأرمن التي كانت من ثمار سياسات ومُمارسات جمال باشا السفٌاح وأقرانه.
وعلى الرغم من أن جمال باشا السفٌاح قتل العشرات من خيرة رجال العرب فإنه لم يعاقب إلا بيد الأرمن، وقد قُتل كما قتل كل طاغية انقلابي، وجاء قتله على يد أرمني معروف الاسم ضمن عمليات مُخطٌطة ومهندسة ومُموٌلة نفذها الأرمن كما أشرنا ضد كل القيادات العسكرية التركية التي شاركت في الأحداث التي سُمٌيت بمذبحة الأرمن، التي لا يزال الغرب كما أشرنا تُلوح بها رغم أن الثأر قد تم بقتل القيادات كلها وفي مقدمتهم أكبر قائدين تُركييْن وهما:
– الصدر الأعظم محمد طلعت باشا (1874 ـ 1921) والذي شغل منصب وزير الداخلية (1913 ـ 1917) ثم أصبح الصدر الأعظم (1917 ـ 1918) وقد قتل عن 47 عاما في العاصمة الألمانية برلين على يد أرمني في 15 مارس 1921.
– الفريق أول أحمد جمال باشا الذي سماه العرب بالسفٌاح (1872 ـ 1922) الذي قُتل بيد أرمني عن 50 عاما يوم 21 يوليو 1922 في تبليسي عاصمة جورجيا.
الجزيرة