في العام 1968 حلت اليابان كثاني أقوى اقتصاد عالمي بناتج محلى 142 مليار دولار بعد ازاحة فرنسا التي تراجعت إلى المركز الثالث بنحو128 مليار دولار، حينها كانت الصين في المركز السادس اقتصاديا بنحو71 مليار دولار فقط، ومن وقتها ظلت اليابان محتفظة بمركزها المرموق بعد الولايات المتحدة الأمريكية حتى العام 2010 الذي تغيرت فيه الصورة تماما، حيث واصلت الصين نموها الصاروخي لتحقق ناتج محلى أجمالي بنحو5900 مليار دولار مقابل اليابان التي حلت ثالثا بنحو5500 مليار دولار.
ومنذ عام 2010 وحتى اليوم ضاعفت الصين تفوقها الجامح وصولا إلى حدود 12300 مليار دولار مع توقعات متنامية بتجاوزها الولايات المتحدة اقتصاديا بحلول عام 2025، بينما تراجعت اليابان مع احتفاظها بالمركز الثالث منفردة وبالرابع بعد الاتحاد الأوروبي إلى نحو4900 مليار دولار، ومن طبيعي جدا أن يفرز هذا المشهد الكبير حرب تكسير عظام بين الفيل الأمريكي والتنين الصيني من جهة، وتحالف ضروري بين اليابان والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، وهوما يحدث بالفعل حاليا.
الاتفاقية الاوروبية اليابانية تمحو نحو 94 في المائة من الرسوم الجمركية على واردات الاتحاد الأوروبي إلى اليابان، مما يوفر على الشركات الاوروبية نحو مليار يورو سنويا من الرسوم الجمركية
وليس أدل على ما سبق إلا نشوب الحرب التجارية التي يقودها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ضد الصين لأسباب متشابكة من طغيان الفائض التجاري مع بلاده لصالح الصين بأكثر من 293 مليار دولار مرورا بطبيعة النظام السياسي والاقتصادي للصين الذي يسحق في طريقه كل التفوق الأمريكي المستمر منذ عقود طويلة، وصولا إلى الحقيقة القريبة التي تشير بقوة إلى اعتلاء الصين قمة الاقتصاد العالمي، لتبدو هنا الحرب التجارية بين الندين ساحة مناسبة جدا للتفاهم الشاق على توزيع الأدوار في الأجل القريب
ومع استمرار حلقات التناطح الأمريكي الصيني يتفاعل العالم من حولهما عبر القوى الاخرى خشية تصلب المواقف واستغلالا لما يحدث واستباقا لنتائج غير مرغوب فيها قد تفرض نفسها عليهم في أي وقت، لهذا تتحرك اليابان الآن مع لاعب إقليمي صاعد وهو الهند ومع لاعب دولي مخضرم وهو الاتحاد الأوروبي، لعدة أسباب أولها مواجهة الصين على أكثر من جبهة وثانيها مناورة الولايات المتحدة بهدف التخلص التدريجي من هيمنتها عليها وثالثها أن تعود اليابان بعد عقود وعقود إلى دور الوصيف المناسب لها في الاقتصاد العالمي.
كيف تتحرك اليابان لمواجهة الصين؟
الاجابة الأخيرة لهذا السؤال جاءت في الأول من فبراير 2019 حيث توقيع “اتفاقية التجارة الحرة الأوروبية اليابانية” التي تمثل أكبر منطقة للتجارة الحرة المفتوحة في العالم بتغطية ثلث الاقتصاد العالمي لنحو635 مليون نسمة الذين سيتنفسون مناخا اقتصاديا جديدا بتعريفات جمركية متدنية للغاية، في الوقت الذي يشهر فيه ترامب والصين أسلحة التعريفات الجمركية في وجه الاقتصاد العالمي ككل.
الاتفاقية الأوروبية اليابانية تمحو نحو 94 في المائة من الرسوم الجمركية على واردات الاتحاد الأوروبي إلى اليابان، مما يوفر على الشركات الاوروبية نحو مليار يورو سنويا من الرسوم الجمركية، وفى المقابل تتمتع واردات اليابان إلى الاتحاد الأوروبي بتخفيض بنحو 99 في المائة من الرسوم الجمركية، على أن يتم إلغاء الرسوم كاملة على بعض المنتجات “منها الاجهزة الالكترونية والسيارات” بين عامي 2024 و2026.
تنظر الصين هنا بعين القلق البالغ لتلك الاتفاقية الضخمة التي بخلاف فوائدها الهائلة لأطرافها تركز على معايير مهمة من حقوق العمال وحماية الملكية الفكرية وحقوق المستهلكين ومنافسة الجودة العالية للمنتجات الأوروبية واليابانية بأرخص الاسعار، وهي معايير لا تطبقها الصين بالشكل الصحيح وتفرز ضدها اتهامات كثيرة ومتكررة من أمريكا ترامب مرورا بألمانيا ميركل زعيمة الاتحاد الأوروبي وصولا إلى هند مودي ويابان شنزوأبى
تعمل اليابان على تطوير ميناء ترينكومالي – سريلانكا باستثمارات تبلغ 1.8 مليار دولار، بالإضافة إلى رعايتها للمنطقة الاقتصادية بين ميانمار وتايلاند بنحو2 مليار دولار
هنا لنا وقفة للعودة إلى الوجوه المتعددة الاخرى في الاجابة عن سؤال مواجهة اليابان للصين ولكن من نواحي استراتيجية وجيوسياسية يأتي أهمها كما يلي:
أولا، أمام مشروع الصين العملاق “مبادرة الحزام والطريق” الذي يغزو أكثر من 56 دولة حول العالم، نجد مشروع اليابان والهند المعروف باسم “ممر التنمية الآسيوي الأفريقي” الذي يحوي مساحة مهمة تمر عبرها نصف حجم التجارة العالمية حيث الربط بين المحيط الهندي وقارة أفريقيا عبر مسارات الاتصالات والنقل الجوي والبحري وبناء قواعد صناعية على الساحل الشرقي لأفريقيا، باستثمارات يابانية أولية تصل إلى 200 مليار دولار
هنا يظهر الفارق في التفكير بين اليابان التي تمول مشروعها مع الهند عبر مؤسسات مصرفية تستثمر فوائضها، وبين الصين التي تحمل حكومتها مباشرة على عاتقها تمويل مشروع الحزام والطريق، وهذا جانب مهم في منافسة واستدامة المشروعين المتقاطعين.
ثانيا، في مواجهة مشروع الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان بتكلفة 75 مليار دولار والذى يربط شمال غرب الصين بميناء جوادار الباكستاني بأحدث شبكات للطرق وأنابيب الطاقة والسكك الحديد لعبور بضائع الصين إلى الشرق الاوسط بالاعتماد الكامل على اليوان الصيني في إتمام المعاملات التجارية، نجد اليابان والهند حاضرتان بخططهما البديلة والمنافسة للممر الاقتصادي عبر مشروع توسيع وتطوير ميناء تشابهار الإيراني بمساهمة هندية بلغت نحو500 مليون دولار للاستغناء عن موانئ باكستان لتمرير تجارة الهند إلى الشرق الاوسط عبر الميناء الإيراني المهم الذي تدعمه اليابان بكافة خبراتها التقنية والانشائية في البنى التحتية، وهو الأمر الذي يعطل خطط مبادرة الحزام والطريق الصينية في ايران من ناحية ويشغل الصين بإعطاء الأولوية لنزاعاتها الحدودية مع الهند وباكستان من ناحية أخرى.
ثالثا، على المسرح الخلفي في آسيا تدور منافسة شرسة تحت السطح بين اليابان والصين على موانئ الدول الاسيوية في كلا من “بنجلاديش وسريلانكا ونيبال وميانمار وتايلاند” حيث ضخت اليابان في ميناء ماتارباري – بنجلاديش استثمارات بنحو3.7 مليار دولار، كما تعمل على تطوير ميناء ترينكومالي – سريلانكا باستثمارات تبلغ 1.8 مليار دولار، بالإضافة إلى رعايتها للمنطقة الاقتصادية بين ميانمار وتايلاند بنحو2 مليار دولار، هذا بالطبع مع التواجد الصيني في تلك الدول باستثمارات مقاربة لاستثمارات اليابان التي تتوسع وتنافس بشكل ندي للغاية أمام جارتها الكبيرة جدا الصين.
أخيرا، “بدأنا نبصر أنوار الشموع الآن” هكذا تتحدث الصحافة اليابانية عن صحوة بلادها في مواجهة الصين، فهل تستطيع الشموع اليابانية مواصلة وهجها الساطع في وجه الصين التي تسبقها بمركز واحد في الترتيب العالمي وبنحو ثلاثة اضعاف في ناتجها المحلى ؟!!، ربما