كأنها لم تحدث، لا حكامنا اعتبروا من مصير الشاه، ولا معارضونا اعتبروا من مصير الثورة. وكأن الطبيعي تكرار الأخطاء بشكل أسوأ، ولا تعدو دروس التاريخ تحذيرات وزارات الصحة على علب التبغ. من يتأخّر في الإصلاح يستعجل الثورة، فكيف بمن يرفضه، ويعتقد أنه محصّن، سواء بسطوة أجهزته أو علاقاته الدولية والإقليمية. هذا درسُ محو أمية للحاكم العربي.
في كتابه “زيارة جديدة للتاريخ”، يروي محمد حسنين هيكل عن أحد قادة المعارضة في زيارته الأولى طهران في عز حكم الشاه “إن الناس تخشى أن تدعو الله حتى لا يلتقط السافاك (جهاز مخابرات الشاه) دعاءها وهو صاعد للسماء”. استمرت هذه السطوة للنظام الذي وصفه الرئيس الأميركي، جيمي كارتر، بأنه “صخرة الاستقرار في المنطقة” قبيل أن يتهاوى على يد المتظاهرين العزل.
في دروس محو الأمية، أيضا، أن نظام الشاه لم يكن قمعيا وحشيا متخلفا، ينطبق عليه وصف “المستبد المستنير”، وهو صاحب “الثورة البيضاء” التي واجهت بلا دماء احتجاجات 1963 بسلسلة إصلاحاتٍ اقتصادية، آمن الشاه بالتحديث من خلال التغريب، واتّبع سياسة الإصلاح الاقتصادي بمعزلٍ عن الإصلاح السياسي. واجه الإقطاع، وأعاد توزيع الأراضي الزراعية، وبنى جيشا من أبناء الفقراء والفلاحين، ومكّنه من تلقي أرقى العلوم الحديثة.
ما لم يدركه الشاه أن إعدام نواب صفوي، في العام 1956، وملاحقة الخميني ورجال الحوزة المعارضين، زرع بذرة ثورة سيكتمل نموها بعد نحو عقد ونصف. لم يُعدم نواب صفوي لأنه كاتب مقال في صحيفة، كان يقود منظمة فدائيي الإسلام، ويؤمن بالعنف سبيلا للتغيير، وأيد علانية اغتيال رئيس وزراء الشاه. في المقابل، كان الخميني يؤمن بالعمل الجماهيري السلمي. وقبل الإنترنت و”فيسبوك”، تمكّن بالكاسيت من قيادة الشارع في ثورةٍ أطاحت واحدا من أقوى الأنظمة في العالم.
في كتابه “من بلاط الشاه إلى سجون الثورة”، يكشف المفكر الإيراني، إحسان ناراجي، محاولة الشاه في الوقت الضائع المواءمة بين الإصلاحين، الاقتصادي والسياسي. وتلك الحوارات بين الحاكم والمفكر لا تشهدها في العالم العربي، لا عند مبارك ولا بن علي ولا صالح ولا القذافي.. وغيرهم. وإلى اليوم، يفكر الحاكم العربي بتقنيةٍ تتنصت على دعاء المظلوم وهو صاعد إلى السماء، من دون أن يفكّر بما هو أسهل من ذلك، من خلال سماع صوته بدون تنصّت. لم ينفع الشاه جهاز السافاك الذي يقدّرعدد المتعاونين معه بأكثر من نصف مليون، ولا علاقاته بأميركا ولا إسرائيل، ولا إعدام نواب صفوي ولا ملاحقة الخميني والمعارضين. انتهى، ولم يجد قبرا يضمّه في إيران، ولا مستشفى يعالجه في الغرب الذي راهن عليه وآمن به.
لو أن الشاه لم يعدم نواب صفوي واستمع لاحتجاجاته؟ لو سمح للشيوعيين والإسلاميين والقوميين وغيرهم بالتنافس في انتخاباتٍ حقيقيةٍ، واختار صفوي رئيسا للوزراء، هل كانت الثورة ستحدث؟ كم كانت إيران والمنطقة وفرت دماء ومقدرات؟ “من بلاط الشاه إلى سجون الثورة” اتضح من الأشهر الأولى لسقوط الشاه أن الثورات قادرة على صناعة “شاه” جديد!
لم يستفد الحاكم من دروس الشاه في “الثورة البيضاء”، ولا دروس الخميني في “الثورة الحمراء”. تماما كما لم تستفد المعارضة التي تكسر عصاتها في أول غزواتها، وتعتقد أن التاريخ يكتب بصراخ الجماهير وضجيجها، من دون إدراك تعقيدات البنى التحتية العميقة من اقتصادٍ وغيره، والفوقية من ثقافة وعلاقات دولية. وهذه بعض دروس محو الأمية للمعارضين. في الربيع العربي، ظهر جليا أن لا أحد مهتم بدروس التاريخ، وكأن الثورة في إيران لم تحدث، أو أنها حدثت قبل أربعة قرون ونسيناها، أو أن إيران بعيدة عنا وغير مؤثّرة فينا.
العربي الجديد