بعد استسلام المانيا النازية وإعلان اقتسام نفوذ الدول المنتصرة، عُقِد في مدينة بوتسدام، القريبة من برلين، مؤتمر تاريخي بحضور ونستون تشرشل وجوزيف ستالين وهاري ترومان الذي مثل الولايات المتحدة عقب وفاة الرئيس روزفلت.
بدأت اجتماعات الأقطاب مطلع شهر تموز (يوليو) 1945 وانتهت في الثاني من آب (اغسطس) بمشاركة عدد من العسكريين الذي خاضوا غمار تلك الحرب التي حصدت أكثر من سبعين مليون نسمة.
وكانت قضية توزيع مكاسب الدول المنتصرة تتصدر قائمة القضايا الملحة التي طرحها ستالين الذي قال إن بلاده دفعت ثمناً باهظاً، وإن من حقه امتصاص كل بؤر التهديد في اوروبا الشرقية مثل رومانيا وهنغاريا وبلغاريا وبولندا. واعتبر الزعيم السوفياتي أنه لن يقبل بعد اليوم الحرية الكاملة لدول موجودة داخل الفضاء السوفياتي.
وكان من نتيجة إعلان موقف موسكو الصريح بشأن مستقبل جاراتها أن قلده ترومان وغيره من الرؤساء الاميركيين، بحيث تدخلوا، أحياناً بالقوة المسلحة، لمنع الدول اللاتينية المجاورة مثل كوبا وفنزويلا والمكسيك وكولومبيا وباناما وغرانادا وجامايكا والتشيلي… من اعتماد نظام معادٍ للنظام الاميركي.
مطلع الستينات لاحظت موسكو أن الولايات المتحدة تصوب صواريخها، المزروعة داخل القواعد العسكرية التركية، نحو المدن السوفياتية. لذلك ردّ نيكيتا خروتشيف على هذا التجاوز بنصب صواريخ في كوبا الشيوعية، الأمر الذي اعتبره الرئيس جون كينيدي مخالفاً لمبدأ توزيع النفوذ الذي أقرّ في مؤتمر بوتسدام. وبسبب تحويل كوبا المجاورة لشواطئ ميامي الى أداة تهديد للمدن الاميركية، كاد تصادم القوتين المهيمنتين يفجر حرباً ذرية. ولم يمنع حدوثها في حينه سوى قبول خروتشيف سحب صواريخه من كوبا مقابل سحب الصواريخ الاميركية من تركيا.
لكن فيدل كاسترو لم يقبل بإسقاط النظام الشيوعي الذي اختاره بعد هزيمة غريمه باتيستا، وراح ينشره في الدول المجاورة المحيطة بكوبا.
وقد تأثر رئيس فنزويلا الراحل هوغو شافيز بسياسة صديقه فيدل كاسترو الذي اشتهر في العالم بأنه يحكم أصغر جزيرة تهدد أقوى دولة. وقد ساعده على تنفيذ هذه السياسة السخاء الذي قدمه شافيز بمنحه كوبا مساعدات مالية، إضافة الى تأمين حاجتها من النفط. وكان من نتيجة تلك الصداقة بين الرئيسين أن حُرِم سكان فنزويلا من نعمة الثروة التي تجنيها الحكومة. ومن أجل ضبط الوضع الأمني الداخلي، وإسكات أصوات المعارضة، حوّل شافيز الى الجيش أكثر من نصف ميزانية الدولة. كل هذا لأن الجيش أصبح الحارس الأمين للنظام الاشتراكي الذي تبنته دولة غنية.
سنة 2014 تردى الوضع الاقتصادي في فنزويلا بطريقة غير مسبوقة، الى أن بلغ حداً من الفقر لا يطاق. وقد بثت قناة «سي إن إن» خلال الأسبوع الماضي سلسلة تحقيقات تحت عنوان «النساء في دولة زيمبابوي اللاتينية.» وسجلت مراسلة القناة سلسلة لقاءات مع سيدات اعترفن أنهن يمارسن البغاء حرصاً على توفير بعض المال لشراء الغذاء والدواء لأطفالهن. ولقد هبط المجتمع الى درك الشقاء والفاقة بعدما أمر مادورو بإقفال مدارج المطار الدولي في كاراكاس لمنع الطائرات الاميركية المحملة بالأغذية والأدوية من الهبوط. وقد ساعده على تنفيذ هذه المهمة عدد من أفراد الجيش الذين احتضنهم الرئيس وأمن لعائلاتهم حياة كريمة مقابل حمايته ومساندته على الاحتفاط بالحكم.
الرئيس الانتقالي خوان غوادو خسر حتى الآن معركته الداخلية، علماً أنه نال اعتراف الولايات المتحدة والبرازيل وكولومبيا بشرعية حكمه. في حين أيدت روسيا والصين خصمه نيكولاس مادورو، وهكذا انقسمت دول العالم بين مؤيد ومعارض، الأمر الذي جعل الصحف تكتب عن تجدد الحرب الباردة التي قيل إنها انتهت مع سقوط جدار برلين وانهيار المنظومة الاشتراكية.
عقب اعتقال خوان غوادو في 13 كانون الثاني (يناير) نادى بعد إطلاق سراحه بضرورة إسقاط نظام مادورو، تماماً مثلما أسقط الديكتاتور السابق سنة 1958. ولما فشلت حشود المعارضة في تحقيق هذا الهدف، خطب الرئيس الانتقالي ليؤكد أن سبب نجاح التجربة السابقة تكمن وراءها وحدة الجيش والشعب. «وبما أن الشعب وحده هذه المرة يطالب بإساقط مادورو، فإن علينا تغيير استراتيجيتنا حيال الجيش المسيس منذ عهد شافيز.»
تقول واشنطن إنها غير متضايقة من أعراض الإنفصال التي ظهرت نتائجها السلبية على فنزويلا، جيشاً وشعباً. وبما أن هذا البلد الذي يدور في الفضاء الاميركي لم يعد يمثل تهديداً لأمن الولايات المتحدة، فإن المساعدات الروسية والصينية لن تدوم الى الأبد. إضافة الى هذا المعطى فإن الوضع الجغرافي لدولة فنزويلا مختلف عن وضع المكسيك المتداخل في الجزء الجنوبي من اميركا الشمالية.
وكانت المكسيك على مر العصور تمثل مصدر تهديد وقلق لجارتها الكبرى، إن كان من طريق العمالة غير المرحب بها… أم من طريق موجات المتسللين الذين قرر الرئيس دونالد ترامب مواجهتهم بالجدار العازل، تماماً مثلما فعلت اسرائيل مع المجاهدين الفلسطينيين.
يؤكد المؤرخون أن الولايات المتحدة مارست سياسة إضعاف جاراتها، قبل أن يعطيها ويعطي روسيا مؤتمر بوتسدام هذا الامتياز. وربما يكون الاختبار الأول حدث في الأرجنتين التي تبعد آلاف الأميال عن أراضي الولايات المتحدة. ولكنها رأت في انتشار «البيرونية» في عهد خوان بيرون تهديداً قد يعبر البرازيل وبوليفيا ليصل الى فنزويلا وكوبا. لذلك حاربت الرئيس الأرجنتيني حتى آخر يوم من حياته التي انتهت في تموز (يوليو) 1974.
وتقول السيرة الذاتية لخوان بيرون إن طموحاته السياسية ولدت في ايطاليا أثناء فترة تعيينه ملحقاً عسكرياً في سفارة بلاده. ومع أن جذوره الوطنية قد نبتت في اميركا اللاتينية إلا أن نوازعه تأثرت بالمد الذي أطلقه بينيتو موسيليني بإسم الحركة الفاشستية. ولما رجع الى بوانس ايريس انضم الى فرقة في الجيش قامت بإنقلاب عسكري سنة 1943. وقد عيّن في الحكومة، حسب طلبه، وزيراً للشؤون الاجتماعية. ثم تبيّن بعد حين أن الخدمات الإنسانية التي حققتها وزارته هي التي مهدت له الطريق الى القصر الجمهوري. تماماً مثلما ساعده الزواج من ايفيتا على بناء جمهور عريض يدين له بالولاء الكامل. وفي انتخابات سنة 1946 اختير بيرون رئيساً لجمهورية الأرجنتين بنسبة 56 في المئة. وبعد تجديد انتخابه للمرة الثانية سنة 1973، لم يكمل ولايته لأن صحف المعارضة الممولة من واشنطن كشفت قصص الفساد التي ارتكبتها طغمته الحاكمة. وكان من نتائج العنجهية التي قابل بها المتظاهرين أن تمردت عليه القوات البحرية وأجبرته على الفرار وطلب اللجوء في باراغوي.
ومن ذلك المنفى انتقل بيرون الى مدريد حيث أمضى ما تبقى من عمره برفقة زوجته الثالثة التي تصغره بأكثر من ثلاثين سنة.
الاختبار الآخر الذي حدث في التشيلي، البلد القريب من الأرجنتين، كان بطله الرئيس الليندي الذي وصل الى الحكم عبر انتخابات شعبية نزيهة. ولكن وزير خارجية الولايات المتحدة هنري كيسنجر رأى في الليندي حاكماً معارضاً لسياسة واشنطن ورائداً يسارياً يمكن أن يتمدد نفوذه الى الدول المجاورة. لذلك حرّض الجيش على قتله والإتيان بديكتاتور عسكري لم تعرف اميركا الجنوبية أظلم منه.
المجال يضيق بتعداد الدول المجاورة للولايات المتحدة، والتي منعتها الدولة الكبرى من ممارسة أنظمة اختارها الشعب بحرية وإخلاص. والشيء ذاته ينطبق على روسيا التي قرر رئيسها فلاديمير بوتين أن يعيد مجموعة دول اوروبا الشرقية الى بيت الطاعة!
والمثل الصيني يقول: إذا تخاصمت الفيلة… فيا ويل الأعشاب.