كما توقع الكثيرون، ركز وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في الخطاب الذي أدلى به في القاهرة في 10 كانون الثاني/يناير على ثلاثة مواضيع رئيسية وهي: دعم إدارة ترامب غير المشروط لإسرائيل، والتشديد على مواجهة إيران بشكل حاسم، والنية المتواصلة في محاربة “الدولة الإسلامية” والإسلام المتطرف. وتناول بومبيو هذه المواضيع في محاولة لإقناع العالم العربي والإسلامي بأن “البداية الجديدة” التي أعلنها الرئيس السابق أوباما في خطابه الشهير عام 2009 في القاهرة لم تؤت ثمارها، وأنه في المقابل، تؤسس إدارة ترامب لبداية جديدة حقيقية تعزز العلاقات الثنائية وتصقل صورة الوجود الأمريكي في المنطقة.
وللمفارقة، إن السياسة الرئيسية التي كانت المحرك خلف خطاب بومبيو – ألا وهي قرار الرئيس ترامب بسحب القوات الأمريكية من سوريا – هي فعليًا تكرار لمحاولات أوباما خفض التدخل العسكري الأمريكي في العراق وأفغانستان. ففي الواقع، إن التقدم المحرز في الآونة الأخيرة على صعيد المفاوضات بين الولايات المتحدة وحركة “طالبان” لا يساهم سوى في ترسيخ صورة سياسة الانسحاب العسكري المتواصلة.
وهذا هو نوع التكهنات الناتجة عن الخلاف المعرفي داخل الإدارة. ويبدو أن الرسالة التي يوصلها بومبيو تعِد برؤية أمريكية للشرق الأوسط مبنية على المشاركة، حيث قال إنه في العقد الماضي “تعلمنا أنه عندما تنسحب أمريكا، غالبًا ما يلي ذلك حالة من الفوضى. حين نتجاهل أصدقاءنا، يزداد السخط”. ومن الصعب ربط هذه الوعود بالفراغ الذي ستتركه الولايات المتحدة في سوريا، الذي يعتبره الكثيرون مفيدًا للغاية لروسيا وإيران أكثر منه لحلفاء أمريكا.
وبالتالي، وفي حين يحاول المراقبون الإقليميون المواءمة بين رؤية بومبيو وما تحققه على أرض الواقع، يحاول الكثيرون تحديد محفزات باطنية خلف التناقض الجلي في إدارة ترامب. فعلى سبيل المثال، ونظرًا إلى هوية ترامب المعترف بها على نطاق واسع والتي روّج لها بنفسه كرجل أعمال، برزت شائعات بأن لسحب القوات الأمريكية أثرًا مزعزعًا للاستقرار بشكل متعمد يرمي فعليًا إلى تأجيج النزاع في الشرق الأوسط. ومن شأن تنامي عدم الاستقرار أن يسمح لترامب بتقديم الدعم إلى حلفائه، ما سيعود بدوره بالفائدة على اقتصاد الولايات المتحدة من خلال شبكة صفقات أسلحة بين الخليج والولايات المتحدة.
لكن التفسير الأكثر ترابطًا لهذا الإجراء هو أن الانسحاب العسكري الأمريكي قد يكون مصممًا عمدًا لحض حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة على تأدية دور لطالما دعا إليه ترامب، وهو الضغط بحكم الضرورة لإطلاق “تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي” (MESA)، المعروف أيضًا بـ “الناتو العربي”. ومن المفترض أن تقود مصر والسعودية هذه المنظمة – وهما حليفان قديمان للولايات المتحدة – من أجل محاربة إيران واستراتيجيتها التوسعية في المنطقة.
وكان هذا التحالف نقطة حوار في وزارة الخارجية الأمريكية طوال عدة أشهر، سواء من وصفه من قبل المتحدث باسم “مجلس الأمن القومي الأمريكي” في تموز/يوليو بأنه “حصن في وجه عدائية وإرهاب وتطرف إيران” مصمم لتعزيز الاستقرار في المنطقة، وصولًا إلى اجتماعات بومبيو مع نظرائه العرب في نيويورك خلال أيلول/سبتمبر الماضي. وفي حين أن واشنطن مستعدة لرعاية هذا التحالف، صعّبت الانقسامات والنزاعات بشأن السياسة في المنطقة تشكيل مثل هذا التحالف لغاية الآن. وربما تحاول الولايات المتحدة إطلاق تحالف إقليمي مماثل من خلال إيصال رسالة مفادها أن حلفاءها لا يمكنهم التعويل على تدخل الولايات المتحدة عسكريًا في المنطقة بشكل غير متناهٍ. وللمفارقة، تعود جذور هذا المفهوم بحد ذاته إلى سياسات حقبة أوباما، حيث ظهرت محاولة لتشكيل تحالف مماثل من خلال قوات “جامعة الدول العربية” القائمة أساسًا.
ولكن حتى وإن بدأ “تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي” أعماله هذا العام – كما أفاد وزير الخارجية البحريني – سيتعين عليه مواجهة رؤية إيران بأنها المنتصرة في سوريا إثر انسحاب الولايات المتحدة. وهذه هي الديناميكية التي يمكن أن تقود المنطقة إلى شفير حرب أخرى، مقوضةً قدرة التحالف على أن يكون رادعًا للتحركات العسكرية. ورغم إصرار ترامب على أن وجود الولايات المتحدة في سوريا يجب أن يرتبط بشكل أساسي بتواجد “الدولة الإسلامية”، من السهل تصوّر أن الجماعات الإسلامية المستقبلية – التي قد تكون أقوى حتى من سابقاتها – ستعتبر هذا الأمر بمثابة إشارة لتنفيذ عمليات في سوريا.
وبالتالي، إن رغبت الولايات المتحدة بتجنب هذا السيناريو، وإن كان تدخلها العسكري غير مطروح حاليًا، عندها يجب أن توفر مصدر دعم آخر لحلفائها الإقليميين. فعلى سبيل المثال، يجب على الولايات المتحدة اللجوء إلى الضغط الدبلوماسي لتخفيف حدة الصراع بين دول الخليج وإنهاء الحرب في اليمن. وهذان الصراعان هما من التحديات الأصعب أمام أي حلف “ناتو عربي” ناجح، وسيواصلان استنزاف اهتمام حلفاء الولايات المتحدة الاستراتيجيين ومواردهم مع التسبب في الوقت نفسه بزيادة الاضطرابات في المنطقة التي يُفترض بـ “تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي” حمايتها.
علاوةً على ذلك، يجب أن تعمل سياسة الولايات المتحدة لتكون “قوة خير” للشعب العربي إذا أرادت تشجيع الاستقرار على المستوى الكلي. وقد خلا خطاب بومبيو بشكل ملحوظ من أي إشارة إلى دعم الولايات المتحدة للديمقراطية وحقوق الإنسان، ما يشير إلى أن إدارة ترامب مهتمة بمصالحها مع الحكام العرب أكثر من زيادة دعمها للشعوب العربية. وإن دعمت الإدارة الأمريكية قيادة العالم العربي فحسب، فستوقع نفسها في معضلة على صعيد الرأي العام الإقليمي ومبررها الأخلاقي لتدخلها السابق في المنطقة. وبصفتها دولة لطالما بنت تدخلها في الشرق الأوسط على مبادئ مماثلة فحسب ولا تزال تنادي بها، يقوض تخلٍّ ضمني عن هذه القيم مصداقيتها إلى حدّ كبير في المنطقة، ما يمنح القادة العرب “ضوءًا أخضر” ضمنيًا لانتهاك حقوق الإنسان بشكل أكبر حتى.
من ناحية أخرى، أكد خطاب بومبيو على الازدواجية المضطربة التي تواجه السياسة الخارجية للولايات المتحدة في ظل إدارة ترامب. ومع ذلك، فمن الممكن التوفيق بين رغبة الولايات المتحدة في الحفاظ على مكانتها في صدارة القضايا العالمية مع تزايد نزعة الرئيس ترامب نحو الانسحابات العسكرية. وإن كانت السياسة الأمريكية تسعى إلى المنطقة “المستقرة” التي وعد بها بومبيو، فلا بدّ من مفاوضات حاذقة والتزام بدعم شعوب الشرق الأوسط من خلال سياسات ترمي إلى إرساء الاستقرار. وبدون مثل هذه الإجراءات فمن المرجح ألا يكون الانسحاب العسكري غير كافٍ لتحفيز قيام تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي فحسب، بل قد يعرض أيضًا “الناتو العربي” لعدة عراقيل لسنوات قادمة.
معهد واشنطن