لسنوات قليلة خلت، كانت إسبانيا مثالاً يحتذى في الاتحاد الأوروبي، من حيث استقرار النظام السياسي والإجماع على تأييد الدفع باتجاه المزيد من الاندماج في مشروع التكامل الأوروبي. لكن انفراط الثنائية الحزبية التي تناوبت على الحكم خلال العقود الأربعة الأخيرة، وما نشأ عنه من تشتت للقوى السياسية، إضافة إلى الصعود المفاجئ لليمين المتطرف للمرة الأولى منذ طي صفحة نظام الجنرال فرانكو أواخر سبعينيات القرن الماضي، بدأ يطلق صفّارات الإنذار من مخاطر انتقال عدوى مناهضة المشروع الأوروبي إلى القوة الاقتصادية الرابعة في الاتحاد، التي ستذهب إلى صناديق الاقتراع للمرة الثالثة في أقل من أربع سنوات نهاية أبريل (نيسان) المقبل.
تستبعد أوساط المفوضية الأوروبية والأسواق المالية حدوث أزمة اقتصادية أو مالية بفعل الانتخابات المسبقة التي اضطرت الحكومة الإسبانية للإعلان عنها بعد سقوط مشروع الموازنة العامة في البرلمان، وانهيار الأغلبية التي كانت تعتمد عليها الحكومة نتيجة التوتّر الحاد في المشهد السياسي بسبب الأزمة الانفصالية في كاتالونيا. لكن القلق يزداد في بروكسل من أن تصاب إسبانيا بداء الاهتزاز السياسي المتوطّن منذ سنوات في إيطاليا، الذي تمخّض في العام الماضي عن أوّل حكومة شعبويّة مناهضة للمشروع الأوروبي تكاد تكون الشغل الشاغل لدوائر الاتحاد وأجهزته بعد ملف «بريكست».
عندما وصل الاشتراكي بيدرو سانشيز إلى الحكم مدعوماً بأغلبية برلمانية ضئيلة وغير متجانسة، بعد أيام من تشكيل الحكومة الإيطالية بين حركة «النجوم الخمس» و«الرابطة»، كانت المفوضّية الأوروبية تردد أنّ «إسبانيا ليست إيطاليا»، وتنوّه بالتزام مدريد قواعد الشراكة الأوروبية مقارنة بمواقف وتصريحات زعيمي التحالف الإيطالي الحاكم لويجي دي مايو وماتّيو سالفيني اللذين جعلا من المؤسسات الأوروبية الهدف اليومي المفضّل لسهامهما السياسية.
لكن بعد ثمانية أشهر، وعلى أبواب انتخابات مفتوحة نتائجها على المجهول، لم يعد المشهد الإسباني يختلف كثيراً عن المشهد الإيطالي في عيون بروكسل. فقد حطّمت حكومة سانتشيز الرقم القياسي لأقصر حكومة في التاريخ الإسباني الحديث، وللسنة الرابعة على التوالي تخلّفت إسبانيا عن تقديم موازنتها العامة إلى المفوضية الأوروبية وفقاً للجدول الزمني المعتاد، واضطرت ثلاث مرات لتمديد حسابات السنة السابقة منتهكة القواعد المالية الأوروبية.
وتشير كل استطلاعات الرأي التي بدأت تظهر نتائجها هذا الأسبوع، أن انتخابات 28 أبريل (نيسان) المقبل ستتمخّض عن تعادل بين القوى التقدمية والمحافظة، كما هو الوضع اليوم، وأن مفتاح ترجيح كفّة على أخرى سيكون بيد حزب «فوكس» اليميني المتطرف الذي أعلن تحالفه لخوض الانتخابات الأوروبية مع اليمين المتطرف الحاكم في المجر وبولندا.
ويقول مصدر دبلوماسي أوروبي لـ«الشرق الأوسط»، إن «الخطر الداهم الآن هو أن تقع إسبانيا في حال من الجمود السياسي بعد الانتخابات، في حال تعذّر تشكيل الحكومة بسرعة. أما في المدى المتوسط، فثمّة تخوّف كبير من أن تصاب إسبانيا بعدوى الخطاب المعادي للمؤسسات الأوروبية الذي نشهده منذ فترة في بلدان أخرى. للأسف، لم يعد بإمكاننا أن نستبعد ظهور إيطاليا ثانية».
تجدر الإشارة إلى أن الدوائر الأوروبية كانت قد تنفّست الصعداء مطلع الصيف الماضي، عندما سقطت حكومة راخوي التي كانت قد أوصلت البلاد إلى أخطر أزمة انشقاقية في الاتحاد الذي يعتبر الانفصالات الإقليمية خطاً أحمر من شأن تجاوزه انهيار المشروع الأوروبي بكامله. وكان بادياً الارتياح في برلين وباريس لمجيء حكومة سانشيز التي كافأتها المفوضية بإعطائها هامشاً إضافياً للمناورة بمقدار 6 مليارات يورو في الموازنة العامة. لكن مشروع الموازنة العامة بالذات، الذي سقط في البرلمان الإسباني الأسبوع الماضي، هو الذي دفع برئيس الحكومة إلى الإعلان عن انتخابات مسبقة في رهان تعتبر بروكسل أنه محفوف بمخاطر كبيرة على الصعيد الداخلي الإسباني، وعلى صعيد الاتحاد الأوروبي الذي تتكدّس أمامه الملفات المعقدة.
الشرق الأوسط