تغرق تركيا شيئا فشيئا في مأزق سلطة الحاكم المطلق الذي يضع يديه على كل مؤسسات البلاد ويخنق سياساتها ويدمر علاقتها. ويتجلّى هذا الوضع بوضوح سواء من خلال متابعة أزمة الحريات المنتهكة والوضع الاقتصادي المتردّي في الداخل، كما عبر العلاقات المتوترة مع عدد كبير من الدول في الخارج، وسط تراجع واضح لدور تركيا على مستوى العمل الدبلوماسي والسياسة الخارجية، بعد أن همّش الرئيس رجب طيب أردوغان دور وزارة الخارجية وتوليه بنفسه قيادة العمل الدبلوماسي متسببا في عزلة تركيا.
خلال زيارة رئيس الوزراء اليوناني أليكسيس تسيبراس لتركيا، لم يكن هناك سوى اهتمام سطحي بعدد قليل من الخلافات التي لا تعدّ ولا تحصى، والقائمة بين البلدين منذ عقود. وما من شيء بعث على الحماسة، ولن تتمخض نتائج الزيارة عن أي خطوات عملية، نظرا إلى التباعد الدبلوماسي بين البلدين.
منذ فترة من الزمن، جرى تصميم دبلوماسية تركيا، تماما مثل اقتصادها، لتتناسب خصيصا مع مصالح الرئيس رجب طيب أردوغان وأسلوبه في ممارسة الأعمال. وغالبا ما يتمّ اتخاذ القرارات الدبلوماسية والاقتصادية بالتوازي، وفي معظم الأحيان بما يخدم إنجاز المطلوب بشكل سريع وعملي. فالمطالب السياسية المقدّمة إلى دول أخرى دائما ما تصاحبها حوافز اقتصادية. ولا تبخل تركيا بتقديم كل ما في وسعها كي تكسب قدر ما تستطيع من الجانب الآخر. وأحدث مثال على ذلك هو ذهب فنزويلا.
إن سياسات تركيا ومواقفها وقراراتها في جميع علاقاتها الثنائية ومتعددة الأطراف مع الدول الأجنبية والمنظمات الدولية يحدّدها فرد واحد، بما يتناسب مع طريقة هذا الفرد في إنجاز الأمور وتحقيق مصالحه الشخصية البحتة. وهذا الوضع ليس بجديد، وتشهد على ذلك سياسات تركيا تجاه الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وكذلك علاقاتها مع الولايات المتحدة ومصر وروسيا وسوريا.
أعمال تجارية
منذ فترة والرئاسة التنفيذية التركية تهمّش وزارة الشؤون الخارجية، تلك المؤسسة قديمة العهد الموروثة عن الإمبراطورية العثمانية، وتملي عليها سياساتها. ومع انحراف سياسات الحكومة عن مسارها، تماما كما هو الحال مع الاقتصاد، باتت الإدارة تعتمد اعتمادا أكبر على التدخلات المركزية من الأعلى إلى الأسفل، ولا تثق سوى في جهاز الاستخبارات الوطنية. وقد أصبح هذا الوضع مترسّخا الآن.
ما يثير الاهتمام في هذا الموضوع هو الاقتراح غير اللائق الذي عرضه أردوغان على رئيس الوزراء اليوناني في ما يتعلق بوضع قبرص، مثار الخلاف بين البلدين منذ العام 1974. فقد أفاد الصحافيون بأن الرئيس التركي اقترح توصّل الرجلين إلى حل للمسألة القبرصية في ما بينهما ثم يطلعان الأطراف الأخرى عليه إذا لزم الأمر. لم يتضح ما إذا كان قد استخدم هذا المصطلح بالضبط، لكن الواضح هو أنه يتعامل مع كل الأمور على أنها أعمال تجارية.
ذلك هو النموذج الدبلوماسي الذي فُرض على الأتراك منذ سنوات نتيجة التركيز المفرط للسلطة بغية تحقيق السرعة والفاعلية. من كان يريد الإحاطة بالكوارث التي تشهدها الدول الخاضعة لهذا النوع من تركيز السلطة، فما عليه سوى النظر إلى تركيا، لاسيما منذ العام 2013. هل هناك قرار واحد سليم اتخذه نظام حكم الفرد في تركيا منذ ذلك الحين؟
لكن في ما يتعلق بالسياسة الخارجية التي تمسّ دولا ومؤسسات أخرى، فإن حماقة الأسلوب الذي تتبنّاه القيادة باتت أكثر وضوحا. جمهورية قبرص دولة مستقلة، حتى وإن أبت تركيا الاعتراف بها. المفاوضات التي بدأت بعد أن غزت تركيا شمال الجزيرة في العام 1974، وجميع القرارات التي جرى التوصل إليها بخصوص قبرص، كلها بلا استثناء كانت بمشاركة الأمم المتحدة. والآن يأتي أحد الأطراف ليقترح ضرورة اضطلاع اليونان وتركيا وحدهما بالتعامل مع القضية.
ومن أجل إنجاز الأمور سريعا، صار إجراء سلسلة لا نهاية لها من المكالمات الهاتفية مع قادة الولايات المتحدة وروسيا وغيرهما هو الأداة الأساسية في السياسة الخارجية التركية.
وعندما لا يكون الاتصال الهاتفي كافيا، تأتي الخطوة التالية وهي استقلال طائرة والتوجّه إليهم للقائهم شخصيا. أما وزارة الخارجية فهي مستبعدة إلى حد كبير من هذه العملية، ولم يعد هناك سبب واضح لوجود سفارات تركية في الخارج. جميع مؤسسات الدولة، باستثناء جهاز الاستخبارات الوطنية، لا حول لها ولا قوة أمام هذا الأسلوب المتبع في صنع القرار، تماما مثل البرلمان.
كما أن عدم الاحتفاظ بسجلاّت يُدوّن فيها ما يدور في هذه الدبلوماسية ذات الطراز التركي يجعل من المستحيل معرفة ما قاله أردوغان أو ما طلبه أو ما تعهد به. هل هو طريق سريع أم جسر أم نفق أم محطة للطاقة النووية أم مصنع دبابات أم شركة اتصالات أم منتجع صيفي على ساحل البحر الأسود أم بنك؟
ثمة مجموعة كبيرة من المشاكل، ومستويات الارتباك آخذة في الارتفاع، وعجز القيادة عن متابعة ما يحدث في العالم يؤدي إلى تناقضات صارخة. لا توجد متابعة ولا من يضطلع بأعمال المتابعة. ليس هناك سوى مزاعم مهووسة لم يصدقها، ولن يصدقها، أحد على غرار “وحدات حماية الشعب الكردية السورية جماعة إرهابية” و”يجب على الأسد أن يرحل” و”لا وجود لجمهورية قبرص، بل فقط حكومة قبرصية يونانية في جنوب قبرص”.
ما يظهر على السطح هو أن هناك أطرافا على ما يبدو مستعدة لدعم هذه الدبلوماسية تركية الطراز، بقيادة الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين وبعض الحكّام المستبدين الآخرين في العالم.
ولعل جهل الأول يناسب كثيرا الزعيم التركي، كما يتضح في مكالماتهما الهاتفية الشهيرة التي تمخّضت عن أنباء سارة تتعلق بإبرام اتفاقات وإنجاز بعض الأمور. غير أنهما لا يمضيان قُدما لأن الولايات المتحدة لحسن الحظ تتمتع بمؤسسات قوية تمنع ترامب من استكمال خطواته. وأحدث مثال على ذلك هو ردّ الفعل الذي واجهه ترامب في مجلس الشيوخ بعد الاتفاق مع أردوغان على انسحاب الولايات المتحدة من سوريا.
بين أردوغان وبوتين
في العام 2018 وحده، عقد أردوغان وبوتين سبع اجتماعات ثنائية مباشرة، وتحدثا عبر الهاتف 18 مرة، والتقيا في ست قمم دولية. وعلاوة على هذه الاجتماعات التي لا حصر لها، اجتمع مساعدو الزعيمين. صحيح أن بوتين أيضا ينفرد بالحكم في روسيا، لكن رئاسته مدعومة بوزارة خارجية عملاقة تحت قيادة سيرجي لافروف الذي يتمتع بالنفوذ.
والأهم من ذلك هو أن بوتين محكوم بسياسات روسيا الأمنية. وسحر أردوغان لا يمكن أن يغيّر هذه الحقائق. المكالمات الهاتفية والزيارات ليست كافية لتسوية أمورهما، كما يتضح في الحقيقة أن الاتفاق الوحيد الجدير بالذكر الذي تمكّنا من التوصل إليه بعد 31 اجتماعا عقدت في عام واحد هو إعطاء بوتين الضوء الأخضر لأردوغان لغزو عفرين في شمال غرب سوريا. والقرارات “التاريخية” التي يعلنان عنها تفتقر في الغالب إلى المضيّ قُدما في تنفيذها وتمويلها، أو تقع رهينة لمسائل أخرى كما هو الحال في عملية شراء تركيا لصواريخ إس-400 الروسية.
لا يتبقى إلا أمراء الظلام وطغاة الدكتاتورية. والدبلوماسية مع هذه الثلة تبدو أقل اهتماما بحل المشاكل، وتركز أكثر على ضمان بقاء أردوغان ونظامه. ربما تكون هذه العلاقات هي مصدر القيمة المتنامية لأرقام “صافي السهو والخطأ” في ميزان المدفوعات التركي، والتي تعززها موارد غير معروفة. لذا، تتسم السياسة الخارجية التركية الجديدة بالمساعي العملية إلى إنجاز المطلوب وضرورة ضمان استمرارية النظام. هاتان السمتان لا تتوافقان بالضرورة مع مصالح تركيا على الأمد الطويل.
ذات يوم، أشار سفير بلد عضو بحلف شمال الأطلسي في أنقرة إلى أن كمية صواريخ الدفاع الجوي إس- 400 التي يسعى أردوغان إلى شرائها من روسيا لا يمكن أن تحمي إلا منطقة بحجم بيش تبه، حيث يقع القصر الرئاسي.
وفي الآونة الأخيرة أصدر مركز دراسات الاقتصاد والسياسة الخارجية تقريرا يقول إن “هدف أنقرة الفوري هو شراء المنظومة لمهام الدفاع الجوي في المقام الأول باعتبارها أصلا من أصول الصواريخ أرض-جو، لا لأداء مهام الدفاع ضد الصواريخ الباليستية… لذا سيكون من غير الواقعي تصوير منظومة إس-400 على أنها الحل السحري لحماية أراضي تركيا وسكانها من الصواريخ الباليستية”. من ثمّ، ألم يعد الأمر واضحا؟
العرب