عُقد في العاصمة البولندية، وارسو، يومي 13 و14 شباط/ فبراير 2019، المؤتمر الوزاري لتعزيز “السلام والأمن في الشرق الأوسط”، بحضور ممثّلين عن نحو ستين دولة، وذلك بعد مرور نحو شهر على دعوةٍ أطلقها وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، في خطاب ألقاه في الجامعة الأميركية في القاهرة، لتنسيق الجهود الإقليمية والدولية لمواجهة نشاطات إيران “المزعزعة للاستقرار” في منطقة الشرق الأوسط.. وفي حين كان تمثيل دول عديدة منخفضًا في المؤتمر، كان حضور أكثر الدول العربية على مستوى وزراء الخارجية، وأوفدت إسرائيل رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو لتمثيلها، ومثّل الولايات المتحدة الأميركية نائب الرئيس مايك بنس. وباستثناء المظاهر الاحتفالية التي عبّر عنها المسؤولون الأميركيون نتيجة تمكّنهم من جمع مسؤولين عرب إلى جانب رئيس حكومة إسرائيل، إلا أن غياب وزراء خارجية القوتين الأوروبيّتين الكبيرتين ألمانيا وفرنسا سلّط الضوءَ على التوتر مع الاتحاد الأوروبي، بسبب قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب العام الماضي الانسحاب من الاتفاق النووي المبرم في عام 2015 مع إيران، وإعادة فرض العقوبات عليها. ولم تسلط جل التحليلات السياسية العربية على هذا الغياب، بقدر تركيزها على تطويق النفوذ الايراني في البيئة العربية، فالغياب الأوروبي المؤثر في المؤتمر كاشف لأزمة عميقة تأخذ أبعادها في العلاقات الامريكية الاوربية قد تمهد لمرحلة جديدة في العلاقات الأمريكية الأوروبية، والسؤال الذي يطرح في هذا السياق: ما دلالة اختيار واشنطن لوارسو مكانًا لعقد المؤتمر؟
ما كادت الحرب الباردة تضع أوزارها حتى ظهرت في العلاقات الأمريكية الأوروبية اختلافات متنامية في المواقف إزاء الكثير من القضايا العالمية، وعموماً في كيفية نظر كل من الولايات المتحدة وأوروبا الغربية إلى النظام العالمي المتكون في الحقبة الجديدة، والبيئة الأمنية الناجمة عنه. وأخذت تبرز على نحو متزايد تباينات في المصالح والأولويات .وقد وضح ذلك خلال قمة حلف الأطلنطى الأخيرة التى عقدت فى 25 أيار/ مايو عام 2017م وقمة الدول الصناعية السبع فى 26 و27 أيار/مايو عام 2018م والتى شارك فيهما لأول مرة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب.
وكانت القمتان مناسبتين لإستجلاء السياسة الأمريكية تجاه أوروبا خاصة فيما يتعلق بإلتزام الولايات المتحدة بأمن حلفائها الأوروبيين. وقد جاءت مواقف ترامب مؤكدة لمخاوف قادة أوروبا بشأن رغبة واشنطن فى التراجع بل والتنصل من مواقفها السابقة وإلتزاماتها التعاقدية المنصوص عليها فى ميثاق حلف الأطلنطى بشأن ضمان أمن أوروبا ضد التهديدات الخارجية. ولاريب أن أبرز تلك المواقف تمثل فى إمتناع ترامب عن إعادة تأكيد إلتزام الولايات المتحدة بالمادة الخامسة من ميثاق الحلف والتى تنص على الإلتزام بـ “الدفاع المتبادل” فى حالة تعرض أحد أطراف الحلف لتهديدات خارجية. وهو ما فسر بأنه رغبة أمريكية فى التراجع عن إلتزامات سابقة بأمن أوروبا ووسيلة ضغط على الحلفاء الأوروبيين لحثهم على زيادة مخصصاتهم الدفاعية. وتلك هى المرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية التى تتنصل فيها واشنطن من إلتزامها السياسى والتعاقدى بأمن حلفائها الأوروبيين. وكان ترامب قد انتقد علنا قادة أوروبا مطالبا إياهم بتحمل نصيب أكبر من ميزانية الدفاع داخل الحلف، وأعلن عزمه خفض مساهمة واشنطن المالية فى تحالفاتها الدفاعية الخارجية، وخاصة حلف الأطلنطى.
وقد حدت تلك المواقف بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، فى سابقة هى الأولى من نوعها، إلى أن تطالب الدول الأوروبية بعدم الإعتماد على الولايات المتحدة مستقبلا وبأن تتولى أمورها بنفسها فيما يتعلق بقضايا الأمن والدفاع الجماعى، حتى لا تظل رهينة لمشيئة أى رئيس أمريكى قد يقرر دون سابق إنذار التراجع عن الإلتزامات التقليدية لبلاده تجاه أوروبا. تصريحات ميركل هى دعوة للدول الأوروبية لكى تأخذ زمام أمور الدفاع عن أمنها بقدر أكبر من الجدية وأن تخصص لها الإمكانيات المادية اللازمة وأن تعمل على وضع الخطط الضرورية لرسم إستراتيجية دفاعية تحقق لها قدرا أكبر من الإستقلالية فى قضايا الأمن والدفاع. إلا أن ذلك لا يعنى أن ميركل قد أغلقت الباب أمام التعاون مع واشنطن مستقبلا فهى تعلم ان الحفاظ على أمن أوروبا مرتبط بشدة بالقدرات الدفاعية للولايات المتحدة وان الدول الأوروبية غير قادرة وحدها فى الوقت الراهن على حماية أمنها ضد التهديدات الخارجية الخطيرة.
والواقع إن موقف ترامب تجاه أمن أوروبا، وإن كان ينبع من رغبته فى إعطاء الأولوية المطلقة لمصالح بلاده تنفيذا لشعاره الإنتخابى “أمريكا أولا”، قد نبه دول أوروبا، خاصة الكبرى منها، لضرورة تدارك تراجع قدراتها العسكرية بدرجة كبيرة خلال الأعوام الماضية. فمن ناحية التسليح، تقهقرت قدرات الدول الأوروبية خلال السنوات العشر الماضية لمستويات غير مسبوقة، حيث إنخفض عدد طائرات الهليكوبتر الهجومية بنسبة 52% والطائرات المقاتلة 30% والفرقاطات والمدمرات 15% والغواصات النووية 16% والغواصات التقليدية 22%. كما تراجع عدد أفراد الجيوش الأوروبية بنسبة 23% خلال نفس الفترة بما يوازى 451 ألف عسكرى، حيث إنخفض الجيش الألمانى بنسبة 37% (108 ألف عسكرى) والبريطانى 30% (46 ألف) والفرنسى 20% (52 ألف) والبولندى 30% (42 ألف). والواقع إن الدول الكبرى غير الأوروبية تتجه هى الأخرى لخفض عدد قواتها المسلحة، لكن معدل الإنخفاض فى الجيوش الأوروبية يبلغ ضعف مثيله فى الولايات المتحدة وروسيا وستة أضعاف نسبته فى الصين.
ويعكس ما سبق عدم إلتزام الدول الأوروبية بنسبة 2% من الناتج المحلى الإجمالى التى أوصى حلف الأطلنطى بتخصيصها لأغراض الدفاع. فالدول الأوروبية الأعضاء فى الحلف تخصص مجتمعة سنويا 1.2% من الناتج المحلى الإجمالى للنفقات العسكرية، وهو ما يقل كثيرا عما تخصصه الولايات المتحدة (3،3%) وروسيا (3،7%). وإذا كانت الصين لا تخصص سوى 1،3% من ناتجها المحلى لأغراض الدفاع، فإنها زادت ميزانيتها العسكرية أربعة أضعاف خلال السنوات العشر الماضية. ولكى تلتزم أوروبا بتوصية حلف الأطلنطى، فإن عليها أن تزيد ميزانياتها العسكرية بنحو 98 مليار يورو سنويا.
إن إتجاه الدول الكبرى لخفض ميزانياتها الدفاعية بدأ مع إنتهاء الحرب الباردة وإنهيار الإتحاد السوفييتى فى ديسمبر 1991. وكانت الدول الأوروبية هى الأكثر إسراعا فى تنفيذه إعتقادا منها أن عصرا جديدا من السلام قد بدأ، يكلله إنتصار النظام الليبرالى الغربى على النظام الشيوعى. لكن ظهور تحديات أمنية جديدة مع بداية الألفية الثانية، من أهمها الإرهاب، وما مثلته عودة روسيا على الساحة الدولية فى ظل حكم الرئيس فلاديمير بوتين من إحياء للتنافس مع الغرب، جعلت دول أوروبا تعيد النظر فى أولوياتها الدفاعية وتسعى للإهتمام من جديد بتقوية جيوشها.
وبالإضافة لتراجع إلتزام ترامب بأمن أوروبا، فإن هناك أسبابا أخرى زادت من التباعد بين الولايات المتحدة والقوى الأوروبية الكبرى، وفى مقدمتها ألمانيا أكبر إقتصادات أوروبا. فالرئيس ترامب ما إنفك يهاجم السياسات التجارية لبرلين، واصفا إياها بأنها تضر بالإقتصاد الأمريكى. كما إنه انسحب من معاهدة باريس للمناخ رغم محاولات الدول الأوروبية إثنائه عن ذلك. والواقع أن قادة أوروبا كانوا يأملون أن يتبنى ترامب بعد توليه السلطة مواقف أكثر إعتدالا من تلك التى أعلن عنها خلال حملته الإنتخابية، لكن خابت آمالهم.
فالحضور الباهت للقوى الأوروبية الرئيسة في القمة، عكس غضب هذه القوى المتزايد من سياسات الولايات المتحدة الانفرادية حيال سوريا وإيران. إذ غادر وزير الخارجية البريطاني جيريمي هانت قمة وارسو مبكراً؛ متذرعاً بوجود بعض الأعمال التي يحتاج إنجازها مع مجلس العموم بشأن صفقة البريكست. فيما خفضت دول كبرى في اوروبى تمثيلها الدبلوماسي. ووُضِعَت الأجندة الأولية للقمة بعد أن أخبرت أوروبا واشنطن أنَّ عقد قمة من شأنها إبراز الخلافات بين الجانبين حول إيران ليست بـ «الفكرة السديدة». ولم تستشر واشنطن الاتحاد الأوروبي قبل أن يعلن وزير خارجيتها مايك بومبيو عن القمة، التي ستشارك في استضافتها بولندا. وبالرغم من إعادة تسمية أجندة القمة بحيث تركز على السلام والأمن في الشرق الأوسط، لا تزال تراود الدبلوماسيين الأوروبيين شكوكٌ في إمكانية أن يخفض أشخاص مثل بومبيو ونائب الرئيس الأمريكي مايك بنس من حدة خطاباتهم المعادية لإيران خلال القمة. ويظل الاتحاد الأوروبي داعماً قوياً للاتفاق النووي الإيراني المُوقَّع عام 2015، الذي انسحبت منه الولايات المتحدة، حتى وإن كان الاتحاد ينتقد برنامج الصواريخ الباليستية الإيرانية. ونجح الاتحاد أخيراً في تصميم آلية تجارة أولية للتصدي للعقوبات التي فرضتها واشنطن عقب هذا الانسحاب على الشركات التي واصلت معاملاتها التجارية مع إيران.
ففي سياق هذه التطورات فب العلاقات الأمريكية الأوروبية، يمكن فهم اختيار إدارة ترامب للعاصمة البولندية وارسو، لعقد مؤتمر هدفه الرئيس مواجهة إيران، إلى جملة من الأسباب، أهمها:
• أن واشنطن باختيارها وارسو ترسم خطوطًا جديدةً لتقسيم القارة الأوروبية بين حلفاء جدد تابعين لها، يتماهون مع سياساتها الإقليمية والدولية، وحلفاء قدامى لديهم سياسات أكثر استقلالًا عنها في غرب القارة الأوروبية. ومنذ انتهاء الحرب الباردة، ازدادت ثقة واشنطن بدول أوروبا الشرقية التي انضمّت إلى منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) بعد انهيار الكتلة الشيوعية، ولا سيما بولندا وجمهورية التشيك اللتين نصبت فيهما واشنطن أجزاءً مما يسمّى الدرع
“قاد الفشل الأميركي في جمع الحلفاء العرب إلى توسيع دائرة المشاركة بالدعوة إلى عقد مؤتمر وارسو” الصاروخية، لمواجهة ما تزعم واشنطن إنه خطر الصواريخ الإيرانية على القارة الأوروبية.
• يدلّ اختيار وارسو مكانًا لعقد المؤتمر على مدى ارتهان بولندا للسياسة الأميركية، بعد أن باتت تعتمد كليًّا عليها في الدفاع عن نفسها في مواجهة ما تعتبرها تهديداتٍ روسيةً لأمنها. وهي من ثم تجد نفسها منحازةً إلى واشنطن في مواقفها، حتى لو كانت تتعارض مع السياسات التي يتبنّاها الاتحاد الأوروبي؛ وبولندا عضو فيه. وهذا يعني أيضًا أن واشنطن باتت تعتمد أكثر على بولندا في تأدية أدوار، سواء في منطقة الشرق الأوسط أو في القارة الأوروبية. لذلك يعدّ المؤتمر بمنزلة فرصةٍ لبولندا والولايات المتحدة لتعزيز شراكتهما الإستراتيجية؛ إذ تُضاعف الأولى جهودها من أجل استضافة قاعدة أميركية على الأراضِي البولندية. وكان لافتًا أن البلدين وقّعا، على هامش قمة وارسو، على عقدٍ لشراء عشرين قاذفة صواريخ بقيمة 414 مليون دولار، تسلّمها الولايات المتحدة إلى بولندا بحلول عام 2023.
• في ظل عدم وجود حماسة أوروبية شديدة لعقد مؤتمرٍ مخصصٍّ لمواجهة إيران، ظهرت وارسو على أنها الخيار الأمثل؛ بوجود حكومةٍ يرأسها حزب القانون والعدالة، وهو حزب يمينيٌّ ذو ميولٍ أطلسيةٍ، ولديه نظرة متشكّكة حيال الاتحاد الأوروبي، علاوة على أنه يتوافق مع السياسات اليمينية والشعبوبة التي ينتهجها ترامب. وقد مثّلت استضافة المؤتمر فرصةً لحكومة اليمين المحافظ في بولندا لتعزيز العلاقات مع واشنطن، في وقتٍ تواجه فيه عزلةً متزايدة داخل الاتحاد الأوروبي، وسط نزاعٍ حول التزام الحكومة معايير سيادة القانون.
نستخلص من دلالة مكان مؤتمر وارسو أن العلاقات الأمريكية – الأوروبية على مفترق طرق، حيث تشير الاتجاهات الحالية إلى أنه من المحتمل اتساع الفجوة بين ضفتي الأطلسي. لا نقول أن هذه الفجوة سوف تتحول إلى هوة يستحيل جسرها، ولكن يبدو ضعيفاً احتمال عودة الشراكة الوثيقة التي سادت في العلاقات بين أوروبا الغربية والولايات المتحدة خلال حقبة الحرب الباردة كلها، إلى ما كانت عليه. إذ أن الهم الأساسي للولايات المتحدة هو حماية موقعها بوصفها القوة العظمى الوحيدة والأقوى وترسيخ سياسة التفرد التي تنتهجها لجعلها سمة النظام العالمي الجديد الذي تسعى لفرضه. أما أوروبا فيتركز اهتمامها على تعزيز مشروعها التكاملي وتوسيعه وتطويره للارتقاء به إلى مستوى يتيح لها في المستقبل غير البعيد مواجهة القوة العظمى الأمريكية.
وحدة الدراسات الدولية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية