شُغل العالم الإسلامي، في تسعينيات القرن المنصرم، بقضية “الأفغان العرب”. وتوسعت تلك القضية لتنغمر في ميادينها أجهزة استخبارات شتّى، في رأسها الاستخبارات البريطانية والأميركية والسعودية. وأولئك “الأفغان العرب” كانوا قد تدفقوا على مدينة بيشاور الباكستانية منذ سنة 1980 فصاعداً، أي غداة الاجتياح السوفييتي للأراضي الأفغانية في 27 كانون الأول/ ديسمبر 1979 حين جرى تنصيب الشيوعي بابراك كارمال رئيساً لجمهورية أفغانستان، خلفاً للشيوعي حفيظ الله أمين. واستشرى ذلك التدفق تلبية لنداء الجهاد ضد “الملحدين السوفييت”، ونصرة للشعب الأفغاني المسلم. وقاد حملة الجهاد أمراء سعوديون مدلّلون كانوا قد خرجوا للتو من تجربة أرعدت أطرافهم هي عملية اقتحام جهيمان العتيبي الحرم المكي، وإعلان تكفير الأسرة السعودية المالكة. ومع أن حركة جهيمان قُضي عليها في 20 /11/ 1979 بمعونة الوحدات الخاصة الفرنسية والأميركية، إلا أن الذعر من فُقدان شرعية حماية أرض الحرمين أطلق لدى أمراء السعودية موجة من “النخوة” غير المسبوقة لدعم الإسلام والمسلمين والجهاد في أفغانستان. وكان من نجوم الدعوة إلى إدارة الظهر لفلسطين، وشد الرحال إلى أفغانستان، الفلسطيني عبد الله عزام، صاحب كتاب “آيات الرحمن في جهاد الأفغان” (1984) الذي ملأه بالخرافات والمخاريق عن “بطولات” المجاهدين فوق ذرى هندوكوش، وفي شعاب هضبة بامير وجبال سليمان ووديانها. وقد حمل “أصحاب النخوة” معهم التبرّعات الوافرة والأسلحة الكاسرة، وبرز من بينهم محمد شوقي الإسلامبولي (شقيق خالد الإسلامبولي أحد الذين اغتالوا أنور السادات) وأيمن الظواهري ورفاعي أحمد طه ومصطفى ست مريم (أبو مصعب السوري) وغيرهم. وبعد توقف “الجهاد الأفغاني” في سنة 1989 بانسحاب الجيش السوفييتي من أفغانستان، انضم معظم “المجاهدين” العرب إلى الجمعية الإسلامية التي كان يقودها برهان الدين رباني، وشاركوا في الصراعات الدموية التي اندلعت بين الفصائل الأفغانية المتشرذمة. وفي سياق تلك الصراعات، قُتل عبد الله عزام وولداه اغتيالاً في 24 /11 /1989، واغتال تونسيان قائد “المجاهدين” في بانشير أحمد شاه مسعود، واغتال “مجاهد” مصري الشيخ جميل الرحمن، الأمر الذي بات المجاهدون العرب معه مشبوهين ومتهمين بالعمل لمصلحة أجهزة استخبارات عدة. وبالتدريج، راح أولئك المقاتلون يكتشفون أن لا قيمة لهم، وأنهم مجرّد وقود في صراعات المجاهدين الأفغان التي لا تنتهي، وأن الفصائل الأفغانية لا همّ لها إلا السلطة وتعزيز نفوذ قبائلها، وجني الأموال من تجارة الأفيون، وتلقّي الأموال من دول الخليج العربي؛ فراحوا يفتشون عن ملاذاتٍ آمنة لهم. وكان من المحال الانتقال من أفغانستان أو باكستان إلى أي مكان جديد من دون رعاية أجهزة استخبارية مقتدرة، أو راعية لهم.
المصائر المتشابهة
ماذا سيحلُّ بالمقاتلين الإسلاميين الذين تقطعت بهم السُبل في سورية؟ أيكون مصيرهم مشابهاً لمصير أسلافهم “الأفغان العرب”؟ وهل يعيدون تجميع شتاتهم، كما فعل أقرانهم، بعد الذل
“بلغ عدد “الأفغان العرب” في سنة 1992 نحو ستة آلاف مقاتل، أقام معظمهم، في البداية، في مدينتي بيشاور وقندهار” والتشرذم، في اليمن وكوسوفو والصومال؟ أم أنهم سيواجهون مصائرهم كبقعة الزيت المفكّكة والمتناثرة، فيتحولون من منظمةٍ مركزيةٍ تخيف كثيرين إلى مجرد ذئابٍ منفردة، أو ضباعٍ سائبة مذعورة؟ أم تتلقفهم استخباراتٌ دوليةٌ، وقديمة وجديدة، وتوظفهم لمآربها؟
من باب التذكير وتأريخ الوقائع، فقد بلغ عدد “الأفغان العرب” في سنة 1992 نحو ستة آلاف مقاتل، أقام معظمهم، في البداية، في مدينتي بيشاور وقندهار. وفي سنة 1993 بدأ رحيل هؤلاء المقاتلين وترحيلهم، حين راحت باكستان تضيِّق عليهم في أراضيها لأسبابٍ أمنية، وكذلك حكومة صبغة الله مجددي رئيس حركة تحرير أفغانستان. واتجه المرحّلون الذين انتفت الحاجة إليهم إلى جهاتٍ شتى؛ بعضهم تسلل إلى إيران، وتعاون مع استخباراتها ضد حكومة نواز شريف. ومنهم من يمم شطر السودان، خصوصاً غداة الانقلاب العسكري الذي قاده اللواء عمر البشير في 30 /6 /1989 متحالفاً مع حسن الترابي، والذي أتاحت قيادته الثنائية (البشير – الترابي) لأسامة بن لادن وللمناضل الفنزويلي كارلوس أن يأتيا إلى السودان ويقيما فيه بطمأنينة وأمان. ولكن هذه القيادة الثنائية آنذاك غدرت بكارلوس، وسلمته بنذالةٍ إلى المخابرات الفرنسية، وقبضت ثمن فعلتها. وهاجرت مجموعات كبيرة إلى اليمن، وأقامت معسكراتٍ لها في محافظة صعدة، وبلغت أعداد الذين وصلوا إلى اليمن نحو 1500 مقاتل. وهؤلاء رُحِّلوا لاحقاً إلى الصومال من ميناء المكلا اليمني، والتحقوا بصفوف حزب الاتحاد الإسلامي. وكان ما كان من تخريب الصومال والفتك بشعبه. وفي الوقت نفسه، ذهب آخرون إلى ألبانيا، وتسللوا منها إلى كوسوفو للمشاركة في “الجهاد البوسني”، بينما كانت أعداد غير محدّدة قد نجحت في العودة إلى بلدانها الأصلية، لتظهر، في ما بعد، آثار سواطيرها السود، كما حدث في الجزائر خلال “العشرية السوداء” (1992-2002). ولعل أعدادا أخرى عادت إلى أوروبا، خصوصاً إلى بريطانيا التي رعت عمليات تجنيد المقاتلين في الحرب الأهلية اليوغوسلافية. وأدّى هذا الانتشار الذي يشبه حقاً تمدّد بقعة الزيت إلى تحويل هؤلاء المقاتلين المشتتين إلى منظمة أممية إرهابية، تمكّنت، بالتدريج، من إعادة ربط خلاياها تحت إمرة أسامة بن لادن، ثم أيمن الظواهري، في جبال تورا بورا.
على غرار هؤلاء، سيواجه المقاتلون الأجانب في سورية والعراق اليوم، وكذلك زوجاتهم والأبناء الذين ولدوا في فيافي الإرهاب، مصائر لا يمكن التنبؤ بها على وجه اليقين. ومن الراجح أن تطول هذه المشكلة، لأن لا أحد يريد تلك المخلوقات. لكن أبناءهم الذين لا ذنب لهم، وزوجاتهم أحياناً، يحتاجون حلولاً إنسانية. ويبدو أن الدول المعنية، ولا سيما روسيا، تقبل عودة الأطفال الذين تحدّر أباؤهم من دول الاتحاد الروسي إلى بلدانهم الأصلية. والمشكلة هنا معقدة أحياناً؛ فالطفل المولود لأب قوقازي على سبيل المثال، ولأم عربية، يمكن أن يعود إلى روسيا، كي تتكفله الجمعيات الروسية، لكن بلا والد وبلا أم، حتى لو كانت الأم ما زالت حية، فهي ليست روسية، وربما شاركت في عمليات الإرهاب إلى جانب زوجها، فتصبح، والحال هذه، مطلوبة لأجهزة الأمن.
أكبر تجمع للإرهابيين
ينقسم المقاتلون الأجانب في سورية اليوم إلى ثلاثة أنماط: مقاتلون إلى جانب النظام، وهم من لبنان والعراق وإيران وأفغانستان، علاوة على مقاتلين من الأكراد العراقيين الذين تطوّعوا
“المجموعات الإرهابية العربية التي قاتلت في سورية برعاية دولها، ستعود إلى بلادها الأصلية من دون مشكلات” للدفاع عن الأكراد في الحسكة والقامشلي وعين العرب. ومقاتلون عرب ضد النظام، وهم مثل عشاء القرباط، متحدرون من كل مكان كالسعودية والكويت والأردن ولبنان واليمن والعراق ومصر وتونس وليبيا والصومال والمغرب والجزائر والسودان وغيرها. وأجانب مسلمون غير عرب، أو متحدرون من أصول عربية أو إسلامية، كالأميركيين والصينيين، علاوة على الأتراك والكنديين والأستراليين والأوروبيين (فرنسا وإنكلترا وبلجيكا وهولندا والسويد والدنمارك وإسبانيا وألمانيا والنمسا وإيطاليا وأوكرانيا وكوسوفو)، فضلاً عن إندونيسيا وكازاخستان وأفغانستان وباكستان والشيشان والشركس، الأمر الذي باتت معه سورية تضم، إلى عهد قريب جداً، أكبر تجمع للإرهابيين في العالم؛ ففيها مقاتلون تقاطروا عليها من نحو 90 دولة، ووصلت أعدادهم إلى ما لا يقل عن مئة ألف مسلح. ومع أن الآلاف من هؤلاء قُتلوا، إلا أن ما بقي منهم يثير الرعب لدى دول أوروبا. وكان آخر إحصاء لهؤلاء أذاعته غيرا غوريفا، مفوضة العدل في الاتحاد الأوروبي، ونشرته “لوفيغارو” الفرنسية (13 /4 /2015). وفيه أن ما لا يقل عن ستة آلاف أجنبي ذهبوا إلى القتال في سورية، بينهم 1500 فرنسي و600 بريطاني و600 ألماني و400 بلجيكي و300 أميركي، علاوة على 1500 تركي، وثلاثة آلاف من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق. وانتظم هؤلاء في “إمارة القوقاز الإسلامية” و”أجناد القوقاز” و”جيش المهاجرين والأنصار” و”كتيبة الإمام البخاري” و”جيش دابق”، والأخيرون ينتظرون معركة مرج دابق التي ستندلع في آخر الزمان، بحسب هذيانهم القيامي، على غرار معركة هارمجدون في فلسطين التي ينتظرها مخبولون في أنحاء مختلفة من العالم. ولعل الأمور تغيّرت كثيراً، واختلطت أيما اختلاط منذ سنة 2018 فصاعداً. إلا أن المؤكّد أن هناك أعداداً غير محدّدة بدقة من أبناء هؤلاء المقاتلين الذين قتل كثيرون جداً منهم، وتركوا وراءهم زوجاتٍ من بنات بلدانهم، أو من بنات المناطق التي أقاموا فيها. ولدى القوات الأميركية وحلفائها الأكراد في سورية 800 إرهابي من أوروبا الغربية وحدها، خصوصاً من إنكلترا وفرنسا وألمانيا، خلا الآلاف في مدينة إدلب. وهذا الخليط غير المتجانس من أوباش العالم ورعاع الأحياء الطرفية في المدن الأوروبية والعربية، ومن الباحثين عن طوبى سماوية متخيّلة، أو عن جنّة جنسية، بدا خائب الرجاء، جرّاء الفشل الذريع، وبعد الصراعات الدامية بين “المجاهدين” أنفسهم، ولا سيما المجازر المتبادلة بين تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وجبهة النصرة وأحرار الشام على سبيل المثال. وكان لسقوط مئات منهم أثر كبير في جعل الآلاف منهم يفرّون من مواقعهم نحو تركيا في طريقهم إلى أوروبا. لكن معظم هؤلاء سقطوا في أيدي الاستخبارات الأميركية والتركية والجماعات الكردية المسلحة، فيما تحتفظ القوات العراقية والفصائل العراقية بأعداد غير محدّدة منهم. وفي هذا السياق، سُجِّلت عودة ما لا يقل عن 700 تونسي من العراق وحده إلى بلدهم، غير أن معظم هؤلاء عاد واجتاز الحدود إلى ليبيا وسيناء. وعلى غرارهم، عاد كثيرون إلى مالي والصومال والسودان، وها هم يتسلّلون اليوم إلى الجزائر والمغرب ومصر وليبيا. وما كانت تلك العودة لتصبح ممكنةً لولا جهاتٌ راعيةٌ لتلك العودة.
الملاذات غير الآمنة
تأمين ملاذات آمنة لهؤلاء معضلة كبيرة، تبدو معها مشكلة “الأفغان العرب” أو “العائدين من
“الذين لا يستطيعون العودة إلى بلدانهم سيحاولون التفتيش عن أماكن جديدة لمتابعة “جهادهم” العبثي” كوسوفو” ضئيلة بالمقارنة. ومهما يكن الأمر، يمكن منذ اليوم رسم ملامح أولى للمخارج الملائمة لمعضلة هؤلاء الإرهابيين، في حال التوصل إلى حل سياسي متين في سورية. ويمكن تصنيف هذه الملامح كما يلي:
أولاً: لن يكون ثمّة أي مشكلة في عودة الآلاف من المقاتلين غير السوريين الذين قاتلوا إلى جانب النظام السوري إلى بلدانهم الأصلية، مثل مقاتلي حزب الله (لبنان) وعصائب أهل الحق ولواء عمار بن ياسر والفاطميين والزينبيين وسرايا طليعة الخراساني ولواء أبو الفضل العباس (العراق) وأكراد العراق، وبعض أفراد تلك الجماعات بدأ العودة بالفعل، خصوصاً حزب الله اللبناني.
ثانياً: المجموعات الإرهابية العربية التي قاتلت في سورية برعاية دولها، ستعود إلى بلادها الأصلية من دون مشكلات. ومؤكّد أن هؤلاء سيخضعون للرقابة الدائمة.
ثالثاً: الذين لا يرغبون في العودة إلى بلادهم الأصلية من الذين قاتلوا في سورية، بالتنسيق مع أجهزة استخبارات بلادهم، خوفاً مما ينتظرهم من رقابةٍ أو قمع، سيحاولون التفتيش عن أماكن جديدة لمتابعة “جهادهم” العبثي. والدول المرشحة لتكون ملاذاً لهم هي المبتلاة بالحروب الأهلية، مثل ليبيا والصومال ومالي ونيجيريا.
رابعاً: الإرهابيون التكفيريون الأجانب هم المشكلة حقاً، الأمر الذي يعيد إلى الأذهان تجربة العائدين من أفغانستان والبوسنة الذين نشروا العنف في كل مكان. ولعل الخطر الأكبر هو المقاتلون الذين جاؤوا من أوروبا، ومن دول الاتحاد السوفييتي السابق، فدون عودتهم إلى بلدانهم مصاعب كبيرة، وسيحاولون التسلل، بالتأكيد، إلى الدول المبتلاة بالحروب، ما يشكّل تهديداً خطيراً، لا لهذه الدول وحدها، بل للدول المجاورة، مثل المغرب والجزائر وتونس ومصر والسودان. وهناك مخاوف كبرى من أن يتزايد العنف في الفيليبين والهند والصين، وروسيا بالطبع، علاوة على أوروبا جرّاء وصول أعدادٍ لا يمكن تقديرها من هؤلاء الإرهابيين الخائبين الغاضبين بعد اكتسابهم خبرات هائلة في عمليات التفجير وقتال المدن. وبهذا المعنى، سيستمر اسم “داعش” في الطنين سنواتٍ طويلةً مقبلة.
العربي الجديد