بعد نيل الحكومة اللبنانية الجديدة ثقة البرلمان، في أعقاب نقاشاتٍ استمرت ثلاثة أيام، وكشفت عمق الشرخ الذي يفصل بين محور الممانعة، بقيادة حزب الله، ومحور القوى السياسية المعارضة له، يتوجّه الاهتمام في الداخل اللبناني إلى كيفية معالجة هذه الحكومة المشكلات المعيشية المستعصية التي يواجهها اللبنانيون منذ سنوات، وفي طليعتها أزمات الكهرباء وانعدام فرص العمل للشباب واللاجئين السوريين.
في هذا الوقت، بدأت إسرائيل حملة منظمة ضد الحكومة اللبنانية الجديدة، استهلها رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، في لقاء له مع بعثةٍ ضمت أكثر من 40 سفيراً زارت إسرائيل، أخيرا، بالقول إن إيران أصبحت بعد الحكومة الجديدة تتحكّم بلبنان بصورة فعلية، وأن ممثلي حزب الله يتولون مناصب حساسة فيها. وعلى الرغم من أن هذه الحملة في إطار الحرب التي تخوضها إسرائيل لمنع التمركز العسكري الإيراني في سورية، ولكبح تعاظم هيمنتها السياسية على لبنان وسورية والعراق. ولا تعدو أن تكون واحدةً من بين حلقاتٍ متشابكةٍ سياسيةٍ وأمنيةٍ واستخباراتية في مسلسل الصراع الدائر بين إسرائيل وإيران، وأنها لا تخرج كثيراً عن سياسة إسرائيلية، منتهجة منذ سنوات، ضد تعاظم القوة السياسية والعسكرية لحزب الله في لبنان، وصعود النفوذ الإيراني في لبنان، إلا أن تجدّد الحملة الإسرائيلية على الحكومة اللبنانية مثير للقلق، في ضوء معطيات مستجدة بينها: أولا، الحملة المكثّفة التي تقوم بها إسرائيل في مجلس الأمن لدفعه إلى الإعلان عن حزب الله منظمة إرهابية، واستغلال إسرائيل الكشف عن الإنفاق على حدودها مع لبنان لتسويق هذه الفكرة. ومن أجل هذه الغاية، تكليف طاقم عسكري إسرائيلي بتقديم معلوماتٍ محدثة عن نشاطات حزب الله العسكرية إلى الدول الأعضاء في
“على الحكومة أن تثبت للرأي العام اللبناني أولاً، والدولي ثانياً، أنها سيدة نفسها” مجلس الأمن بصورة دورية. ثانيا، محاولة الحكومة الإسرائيلية استخدام كل الوسائل لإقناع إدارة ترامب بوقف مساعداتها المالية إلى الدولة اللبنانية، بسبب زعم إسرائيل إن حزب الله باتت له سيطرة كاملة على مقدرات هذه الدولة، الأمر الذي لا تزال الإدارة الأميركية التي تميز بين الحكومة اللبنانية وحزب الله ترفضه. ثالثا، التصريحات الإسرائيلية المتكرّرة بأن الحكومة اللبنانية الجديدة هي المسؤولة مباشرة عن أي عمل عسكري يقوم به حزب الله ضدها، حتى لو لم تكن هذه الحكومة على معرفة مسبقة به، وبالتالي اعتبار كل الدولة، بجيشها وأجهزتها وأرصدتها، أهدافاً مشروعة في أي حرب مستقبلية بين حزب الله وإسرائيل.
ترويج صورة التماهي الكامل بين الحكومة اللبنانية الجديدة وحزب الله الذي تقوم به إسرائيل، علناً وما وراء الكواليس، يهدف إلى حصول إسرائيل على الشرعية في حال هاجمت لبنان عسكرياً؛ وإقناع الولايات المتحدة بالتضييق على لبنان، اقتصادياً وسياسياً ودبلوماسياً. وفي ظل إدارة أميركية منحازة بالكامل إلى جانب إسرائيل، وتخوض معركة سياسية واقتصادية شرسة ضد إيران، فإن التباهي الكبير للحزب بتحالفه التاريخي والاستراتيجي مع إيران الذي أظهره زعماء الحزب بمناسبة الذكرى الأربعين لقيام الثورة الإسلامية الإيرانية، وإسراع وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، بزيارة بيروت لتهنئة المسؤولين اللبنانيين بتشكيل الحكومة، وتفاخر أحد نواب حزب الله بأن بندقية المقاومة هي التي أوصلت ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، بينما بشير الجميل [اغتيل على يد أحد عناصر الحزب القومي السوري الحليف لدمشق في سبتمبر/ أيلول 1982] وصل إلى الرئاسة “على ظهر الدبابات الإسرائيلية”؛ ذلك كله لا يبشر بالخير، ويصب في مصلحة الحملة الإسرائيلية على الحكومة اللبنانية.
لبنانياً، يبدو أن السلاح الأجدى لمواجهة الحملة الدبلوماسية والسياسية التي تشنها إسرائيل ضد الحكومة الجديدة هو التشديد على الفصل الكامل بين عمل الحكومة، بوصفها ممثلةً لجميع
“المطلوب من الوزراء غير المحسوبين على حزب الله أن يعوا أهمية ممارسة دورهم باعتبارهم قوة سياسية وازنة” أطياف الشعب اللبناني، بمن فيهم جمهور حزب الله من المدنيين، والمدافعة عن أمنهم وعن استقرارهم، وحزب الله كتنظيم عسكري خارج عن سلطتها. هذا الفصل هو الذي حمى لبنان دولياً إلى حد ما خلال المواجهات العسكرية التي دارت بين إسرائيل والحزب، ونزع الشرعية عن العمليات الإسرائيلية ضد المدنيين في لبنان.
على الحكومة الجديدة أن تثبت للرأي العام اللبناني أولاً، والدولي ثانياً، أنها هي سيدة نفسها وقراراتها، وأن سياستها تنبع من داخلها، وتخدم مصالح اللبنانيين على اختلاف طوائفهم وانتماءاتهم السياسية، وأنها ليست مطيةً موضوعةً في خدمة أهداف الحزب كما تدّعي إسرائيل. وإذا كانت التوازنات الهشّة داخلها، ومخاض تشكيلها العسير، منعها من مناقشة موضوع سلاح حزب الله، وموقع لبنان المستقل من الصراع السني – الشيعي الدائر في المنطقة، فإن المطلوب من الوزراء غير المحسوبين على حزب الله أن يعوا أهمية ممارسة دورهم باعتبارهم قوة سياسية وازنة وغير هامشية ومؤثرة في تحديد سياسة الحكومة وقراراتها. يمكن أن يقوّي هذا الدور صورة حكومة مستقلة تعكس التوازن القائم في هذا البلد بين معسكر القوى السياسية المؤيدة لحزب الله والقوى المعارضة له. وأي محاولةٍ من حزب الله لكسر هذا التوازن، يمكن أن تكبده ثمناً باهظاً سياسياً وغير سياسي.
العربي الجديد