تعد الأحزاب السياسية من مظاهر الحياة الديمقراطية للدولة، تُعَدُ حالة الأحزاب السياسية من حيث القوة أو الضعف مؤشراً على حالة النظام السياسى ودرجة تطوره فى أية دولة، فالأحزاب تلعب دوراً هاماً فى تدعيم الممارسه الديمقراطية باعتبارها همزة الوصل بين الحكام والمحكومين، بما يسمح بتنشيط الحياة الحزبية، وتعميق المشاركة السياسية للمواطنين. تكتسب الأحزاب عموما أهميتها من بنائها المؤسسي، وهياكلها التنظيمية، وبرامجها الفكرية والسياسية الموحدة، كل ذلك يفترض أن يرفعها إلى درجة من التأثير، تزيد عادةً عما يستطيعه الأفراد؛ لما تملكه من رؤى موحدة وآراء متجانسة، يقوم الحزبُ على رعايتها بجهود متضافرة، ونشاطات منسقة. وتعد الأحزاب إحدى أدوات التنمية السياسية تقاس فاعليته على أساس مدى قدرته على النهوض بالوظائف المنوطة به من قبيل التعبير عن المصالح، وتجميع المصالح، والتنشئة السياسية، والاتصال السياسي، والمشاركة وغيرها، حيث يتولى العديد من الوظائف في الدول الديمقراطية ، من خلال قيامه بدور فاعل في مجال التنشئة السياسية، والتي عبرها يمكن تحقيق نوع من الإشباع للمواطنين سواء بالقيم أو الإيديولوجيات السائدة ذات الطابع السياسي، وذلك طبعا باستخدامه لوسائل عدة، منها الاجتماعات والدورات، والمؤتمرات الحزبية، ووسائل الإعلام بمختلف أشكالها.
كان عراق ما قبل نيسان/إبريل عام 2003، أو كما بات يعرف عراق صدام حسين كان، كما هو معلوم، من نمط الدول ذات الحزب الواحد، التي تعيش تحت ظل نظام شمولي يمنع التعددية الحزبية، وبالتالي لم يكن هنالك ما يستتبع ذلك من تداول سلمي للسلطة يقوم على التنافس الحزبي الديمقراطي، لكن كانت هنالك أحزاب معارضة ممنوعة من ممارسة عملها السياسي داخل العراق، لكنها نشطت في المنافي المختلفة وبشكل خاص في دول الجوار.
كان من نتائج الاحتلال الأمريكي للعراق في ا9 نيسان أإبريل عام 2003م، تأسيس عشرات التكوينات التي أطلقت على نفسها صفة حزب سياسي كحالة طبيعية لمجموعة عوامل أبرزها:الحرمان المطلق من فرص العمل السياسي في العراق منذ فشل تجربة الجبهة الوطنية والقومية التقدمية أواخر السبعينيات من القرن العشرين والإحباط وردود الفعل العنيفة التي سادت الشارع السياسي العراقي إثر سقوط العراق في أحضان الاحتلال الأجنبي الذي لم يكن يخطر على بالوالمطلق لأي شكل من أشكال السلطة وسيادة شرعة الفوضى المطلقة التي انطلقت معها كل الإرادات والإرهاصات والانفعالات الفردية والجمعية.ومجيء عدد من القوى السياسية المنظمة في الخارج والمسندة من قبل قوات الاحتلال والتي أطلقت على نفسها صفة قوى المعارضة، إلى جانب قوى أخرى كانت تعمل وفق توجهات وطنية أو إقليمية أو خارجية.ووجود شخصيات وطنية نافذة وقوى خامدة كانت تعمل وتلتقي تحت أطر أكاديمية أو ثقافية أو واجهات أخرى وتنتظر الفرصة المناسبة للظهور على الساحة.وتأسيسا على ما تقدم اندفع الجميع إلى الساحة للظهور ومحاولة استثمار الواقع وتحت دواع ومقاصد مختلفة ولكن أهمها:
أ- معارضة الاحتلال الأجنبي والسعي إلى التصدي لما يراد تحقيقه على أرض الواقع.
ب – تأييد الاحتلال الأجنبي واعتبار سقوط السلطة والدولة تحريرا للبلاد من طغيان السلطة السابقة.
ج – تحقيق مقاصد زعامية شخصية مدفوعة بتأييد واجهات دينية أو طائفية أو عرقية أو عشائرية، فضلا عن قوى إقليمية مجاورة سعت لأن يكون لها دور في الساحة العراقية خدمة لرؤاها ومصالحها الأمنية والإقليمية.
لم تكن الأحزاب السياسية العراقية تمتلك رؤية واضحة لشروط تحول طبيعة عملها الواجب توفرها عندما انتقلت من مرحلة المعارضة إلى مرحلة احزاب تشارك في بناء الدولة، وهذا ما يشهد عليه حال العراق بعد 2003. فقد أقر الدستور العراقي الدائم عام 2005، وقد أشار هذا الدستور إلى ضرورة تشريع قانون ينظم عمل الأحزاب في العراق، لكن الأمر بقي معلقا لمدة عشر سنوات حتى تم إقرار قانون رقم (36) لعام 2015 الذي ينظم عمل الأحزاب. علما أن عمل الأحزاب العراقية خلال السنوات العشر التي سبقت إصدار القانون كان منظما بأمر سلطة الائتلاف المؤقتة المرقم (97) لسنة 2004 المعروف باسم «قانون الأحزاب والكيانات السياسية» الذي أصدره الحاكم المدني للعراق آنذاك بول بريمر.
المشهد اليوم وفقا لقانون الأحزاب غائم وغير مشجع على إيجاد حياة حزبية حقيقية في العراق، ففي البلد أكبر عدد من الأحزاب والحركات السياسية نسبة إلى حجم السكان طبعا، لكن واقع العمل الحزبي في العراق مترد بشكل لا لبس فيه، إذ يتم تسجيل الأحزاب والكيانات السياسية المستحدثة في المفوضية العليا للانتخابات، ولا أحد يعلم لماذا؟ ولم لا يصار إلى تسجيل الأحزاب لدى هيئة قضائية مستقلة تراقب عمل الأحزاب السياسية وتبت في نزاعاتها، علما بأن عمل المفوضية العليا للانتخابات يجب أن يقتصر على تنظيم الحراك والتنافس السياسي إبان عمليات الانتخابات البرلمانية والمحلية، أو أي استفتاءات يتم اجراؤها في البلد.
واقع التعددية الحزبية في العراق لا يؤشر إلى ديمقراطية حقيقية كما يفهم البعض، فاذا نظرنا إلى برامج الأحزاب لن نجد بينها فروقا واضحة، ولن نجد في مناهجها السياسية ما يميز بعضها عن بعض. ومع أن قانون الأحزاب قد قنن بعض الأسس المنظمة للعمل الحزبي، إلا أن الواقع ينبئنا بعدم التزام الجميع بهذه القواعد المنظمة. مثال ذلك المادة الخامسة من قانون الأحزاب رقم (36) لعام 2015 التي نصت على أن، «يؤسس الحزب أو التنظيم السياسي على أساس المواطنة، وبما لا يتعارض مع أحكام الدستور، ولا يجوز تأسيس الحزب أو التنظيم السياسي على أساس العنصرية أو الإرهاب أو التكفير أو التعصب الطائفي أو العرقي أو القومي». ونحن نرى أن الحياة السياسية العراقية قائمة على أحزاب طائفية وأحزاب قومية، وتيارات سمتها الاساسية الصراع فيما بينها على تمثيل المكون الطائفي أو الديني أو العرقي، ولا نحتاج إلى حذاقة مفرطة كي نثبت ما هو واضح ومعلوم من سلوكيات الأحزاب، التي لا تسمح للعناصر الخارجة عن مكونها، مذهبيا وعرقيا، من الانضمام لها.
كما أن المادة الثامنة، الفقرة رابعا من قانون الأحزاب أشارت إلى نقطة مهمة جدا وهي، «ألا يكون تأسيس الحزب وعمله متخذا شكل التنظيمات العسكرية أو شبه العسكرية، كما لا يجوز الارتباط بأي قوة مسلحة» لكننا نجد قوة المليشيات المسلحة والكيانات التي تمتلك فصائل مسلحة تتحرك بوضوح في الساحة العراقية، وربما من باب الالتفاف على القانون الذي يمنع القوات المسلحة من الاشتراك في الحياة الحزبية، رأينا بعض القوى المليشياوية تشكل أحزابا كارتونية تمثلها في العملية السياسية والبرلمان، والكل يعلم ويصرح بأسماء قيادات التكوينات المسلحة الميليشياوية والعشائرية وشبه العسكرية في البرلمان، على أنها واقع حال لابد من التعامل معه.
النقطة الأكثر خطورة، التي يرى بعض المحللين السياسيين المختصين في الشأن العراقي أنها هي التي أدت إلى تأخير إصدار قانون الأحزاب على مدى عشر سنوات، هي آلية تمويل الاحزاب. وهذه نقطة في غاية الاهمية والخطورة، لانها تمثل المنفذ الاهم للتدخلات الخارجية في الحياة السياسية العراقية، ومنفذ ممارسة أجندات القوى الدولية والاقليمية في البلد. وقد جاءت المواد المنظمة للشؤون المالية في قانون الأحزاب غير واضحة ومائعة وتتحمل التفسيرات المختلفة، فالمادة (34) من القانون، مثلا، منعت الحزب السياسي من التجارة بقصد الربح، لكن من جانب آخر أقر القانون أن للاحزاب السياسية الحق بممارسة الاستثمار على أن يمتاز هذا العمل بالشفافية والخضوع لعمليات تفتيش الجهات الرقابية المختصة، التي يجب أن تراجع الحسابات البنكية للأحزاب بشكل دوري، لكن هذه المادة جاءت بصيغة ضبابية لم تحدد طبيعة الاستثمار وحدوده. والكل يعلم اليوم أن معظم أحزاب العملية السياسية تمتلك ما يسمى بـ»اللجنة الاقتصادية» وهي جهة حزبية تحدد عمل الحزب السياسي في الاستثمارات التي تبرمها الوزارة، أو المؤسسة التي يرأسها أحد أعضاء الحزب وما قد يفتحه هذا الأمر من فرص الفساد.
اليوم، تبذل القوى السياسية في العراق منذ جهوداً من أجل التوافق على طرح تعديل جديد لقانون الأحزاب المعمول به في البلاد، منذ عام 2015، وذلك من خلال كتلها السياسية داخل مجلس النواب العراقي، بسبب ما تعتبره “هفوات” داخل القانون تسمح لكثير من الأحزاب باستغلالها. وفي الوقت ذاته، تؤكد رئاسة مجلس النواب العراقي وجود تضارب في الآراء بشأن التعديلات، في ظل وجود مؤيدين ومعارضين لها، بحسب مصالح الأحزاب نفسها، وهو ما يعني، بحسب مراقبين، معركة مرتقبة داخل الكتل السياسية.
ووفقاً لآخر إحصائية أصدرتها مفوضية الانتخابات العراقية فإن عدد الأحزاب والحركات السياسية والتنظيمات السياسية المسجلة لديها بلغ أكثر من 200. وتكشف الإحصائية أن نحو 85 في المائة من هذه الأحزاب دينية وقومية ومناطقية، وتتشابه في الطروحات والأفكار، وتبدو في غالبها بحكم المنسوخة أو المكررة بين حزب وآخر. وأكد متابعون للشأن العراقي، عن وجود مطالبات كثيرة تخص قانون الأحزاب رقم 36 لسنة 2015 و”الذي ولد في مخاض عسير”، مشيرين، في الوقت ذاته، إلى وجود اعتراضات من كتل سياسية لا ترغب في تأطير عملها الحزبي والسياسي بقانون، لأن السنوات السابقة شهدت مساحة مكرسة للعمل الحزبي والسياسي والمشاركة في الانتخابات من دون مراقبة ومحاسبة من أجل معرفة مصادر التمويل. وشدّد على “ضرورة التعامل مع القانون النافذ حالياً برؤية سياسية واعدة من أجل توسيع المشاركة السياسية واستقطاب أكبر عدد من المواطنين والسياسيين عبر تسهيل تأسيس الأحزاب وعدم التعسف في استخدام الإجراءات القانونية أو تعقيدها”.
وبرأيهم أن العدد المعروض من الأحزاب لا يتناسب مع وضع الشارع العراقي بالوقت الحالي، ويمكن اعتبار العراق الأعلى بالعالم من حيث عدد الأحزاب اليوم، أن غالبية تلك الأحزاب مكررة ومتشابهة ولا تختلف إلا بالاسم. الطرح الديني يغلب عليها، فضلا عن التفكير بنطاق مذهبي داخل العراق، وحرص على إثارة حماسة دينية لدى هذا المذهب أو ذاك، بهدف الحصول على الشعبية المطلوبة، لذا يمكن اعتبارها خطرا على المجتمع العراقي لا منفعة، فكثير منها تؤجج الطائفية أكثر مما هي عليه اليوم. وأن التخمة الحالية بالأحزاب في العراق خطيرة للغاية، وكلما مر حزب بمشكلة تفكك، يعني إمكانية أن يتضاعف، لذا بات من المهم تعديل جديد لقانون الأحزاب بالعراق.
وشددوا أن خروج أعضاء مجلس النواب عن الخضوع لأوامر القوى السياسية قد يؤدي إلى وجود قانون أحزاب ناضج”. واعتبروا أنه “إذا سارت الأمور بخلاف ذلك، فلن تأتي التعديلات بشيء جديد”، موضحين أن “التعديلات، إن كانت من دون ضغوط سياسية، فإنها قد تلزم مزدوجي الجنسية عدم الترشح للمناصب السيادية”. وأشاروا إلى أن “بعض الكتل ستحاول إرضاء الجهات السياسية التابعة لها في قانون الأحزاب”، مشددين على “أهمية وجود قانون للأحزاب قادر على محاسبة القوى السياسية التي تقوم بصرف أموال كبيرة خلال فترة الانتخابات، وأيضاً يكشف عن الأموال ومصادرها لدى الأحزاب العراقية.
وفي السياق ذاته، أكدوا أنه ستتم صياغة عدد من المواد المهمة في قانون الأحزاب على شكل تعديلات، وعرضها على اللجنة القانونية في مجلس النواب العراقي، موضحين، أن “عدة أمور يجب أن تعدل في قانون الأحزاب، من بينها تمثيل النساء في الأحزاب، ومشاركة الشباب، ومسألة التمويل والترويج لأفكار حزب البعث”. من جهته، أكد علي السالم، وهو أحد ممثلي الكيانات السياسية في مفوضية الانتخابات العراقية، أن “التعديلات الجديدة، في حال تم تمريرها، ستكون مهمة على مستوى العمل السياسي في العراق، وتنهي فوضى تشكيل الأحزاب وحلها ثم إعادة تشكيلها، حتى بات تأسيس حزب أسهل من فتح دكان في حي سكني”. واعتبر أن “التعديلات ستكون مهمة من ناحية تنظيم العمل الحزبي، بما يؤدي إلى استقرار، ولو بسيطاً، في العملية السياسية في العراق”. وأشار عضو منظمة حقوق الإنسان فاضل الغراوي إلى أنه تم تشريع قانون الأحزاب على الرغم من احتوائه على الكثير من الثغرات، مؤكداً، لـ”العربي الجديد”، وجود مؤشرات تتعلق بمسألة الشفافية في التعامل مع الكيانات السياسية. وشدد على “ضرورة تنظيم قضية منح الإجازات للأحزاب السياسية، مع الأخذ بنظر الاعتبار منح فرصة للشباب وتمكين النساء”.
مما تقدم نتساءل بناء على واقع العمل الحزبي في العراق: ماذا تفعل كل هذه الأحزاب والائتلافات والكتل والتيارات في الحياة اليومية بعد موسم الانتخابات؟ وما هو دور الأحزاب في الحياة العامة؟ وهل يمكن ملاحظة انعكاس عمل الأحزاب على حياة رجل الشارع؟ وماذا تفعل القيادات السياسية، التي لم يتسن لها الفوز في الانتخابات لتشترك في السلطتين التشريعية والتنفيذية؟ ألا تشتغل الأحزاب على تطوير أداء قواعدها بعد ذلك؟ ألا تعمل على إقامة مؤتمرات مثلا؟ ألا تعمل على تكوين لوبيات ضغط على الحكومة ومجلس النواب العراقي؟ فالمتابعون للشأن العراقي يؤكدون أنه، لا يوجد هذا المستوى من الوعي بأهمية العمل الحزبي في عراق اليوم. ربما يمكننا استثناء بعض الأحزاب العقائدية كالحزب الشيوعي وبعض الأحزاب التي تعد على أصابع اليد من هذا التعميم ، هذه الأحزاب قد تستمر بالعمل طوال أيام السنة، وبشكل خاص إذا امتلكت منافذها الإعلامية الخاصة بها.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية