من المرجّح أن موجةً أخرى من الأسى غمرت نفوس معظم الفلسطينيين في نهاية الأسبوع الماضي، وطغت على حواراتهم البيْنية، عندما أخفقت الأحزاب والقوائم العربية في الداخل الفلسطيني، في توحيد صفوفها عشية انتخاباتٍ عامةٍ إسرائيلية مقرّرة بعد أقل من خمسين يوماً، وفشلت الأحزاب المعنية في إعادة إنتاج قائمتها المشتركة التي خاضت بها تجربة الانتخابات السابقة، وحققت خلالها نجاحاً أسقط رهانات اليمين الإسرائيلي على استحالة وحدة العرب، ومن ثمّ شطب تمثيل نحو مليون ونصف المليون من المواطنين الأصليين، أهل البلاد الحقيقيين.
لقد تبدت مؤشرات هذا الإخفاق جليةً قبل نحو شهرين، وظهرت علامات الفرقة بصورة متزايدة على خلفية منافساتٍ ذات طابع شخصي، واشتدّت حدّة التنازع على الحصص بين مكونات القائمة المشتركة، المعوّل عليها في رفع عدد أعضاء الكنيست العرب أكثر مما كان عليه في السابق، إلا أن الآمال ظلت معقودة، حتى اللحظات الأخيرة، في الداخل وفي الخارج، على فطنة جميع الأطراف لخطورة هذه اللحظة السياسية الحرجة، وعلى وعي المتنافسين المكانة والوزن والوجاهة لضرورة تعظيم حضورهم البرلماني، بدل إضعافه بأيديهم هم أنفسهم.
والحق أن جهوداً علنية، وأخرى بُذلت بلا ضجيج، من قوى سياسية عربية وفلسطينية، لحث قادة الأحزاب العربية هذه على تحاشي الفُرقة، وتجنب مزيد من الانقسام الضارب أساساً في البيت الفلسطيني منذ مدة طويلة، وأن ضغوطاً شعبية ومحاولات توفيقية قامت بها مؤسسات ومراجع أهلية، لاستعادة زمام الوحدة، إلا أن ذلك كله تحطم على صخرة الأنا المتضخمة لدى بعض من أتت استطلاعات الرأي، المشكوك في صحّتها، لتعطيهم مقاعد أكبر مما دار يوماً في خلدهم، أو ساور أحلامهم في أي وقت مضى.
ولعل السؤال هو: ما الجديد في الأمر؟ وما الداعي الى الاستهجان هذه المرة، إذا كان جرح الانقسام قد شقّ النسيج السياسي الفلسطيني في مطارح عديدة، وفي محطاتٍ تاريخيةٍ متعاقبةٍ كثيرة، ووصل إلى العظم مراراً وتكراراً قبل اليوم؟ أليس الانقسام المديد بين الضفة الغربية وقطاع غزة، المتفاقم منذ نحو اثني عشر عاماً، أبرز دليل على استشراء هذه الآفة التي يبدو أنها باتت من لوازم الحالة الفلسطينية؟ وهل هذا الانقسام الطارئ في الحياة السياسية لمواطني الجليل والمثلث والنقب والمدن المختلطة أبلغ مما سبقه من انقساماتٍ واكبت مسار الحركة الوطنية منذ ما قبل النكبة؟
في واقع الأمر، يبدو أن هذا الانقسام، المجرّد من أي خلفيةٍ سياسيةٍ تبرّره، والذي لا تفلسفه رؤية عقائدية تسوّغ حدوثه على هذا النحو أو ذاك، أو تستر عورتَه اعتباراتٌ كلها محض شخصية، هو أشد تلك الانقسامات إثارة للمخاوف لدى الفلسطينيين كافة، كونه وقع في الضلع الثالث من أضلاع شعبٍ تأسست قاعدة مثلثه الديمغرافي هذا في الضفة الغربية وقطاع غزة، بما يزن نحو خمسة ملايين مواطن، فيما بدا اللاجئون في ديار الشتات بمثابة ضلعٍ ثانٍ قوامُه نحو ستة ملايين نسمة، وهو الأمر الذي فتح آفاقاً كفاحيةً متنوعةً أمام كل واحد من الأضلاع الثلاثة.
ومع أن مدى الانقسام في الضلع الثالث هذا وعمقه، لا يقاس بمثيله الواقع في قاعدة المثلث (بين الضفة الغربية وغزة)، سواء من حيث الدوافع أو الروافع، وأنه قد يكون مجرد حالة مؤقتةٍ تنتهي بانتهاء ظرفها الانتخابي العابر، غير أنه ينطوي على خطورةٍ استثنائيةٍ، نابعةٍ من استثنائية وضع هذا الضلع الذي يعتبر الضلع الذهبي بين أضلاع المثلث السكاني الفلسطيني، وذلك لحيويته وفاعليته، وقدرته على الاستجابة للتحدّيات المحيطة بكفاءةٍ عالية؛ إذ فيما يرى بعضهم عرب الـ48 خندقا متقدما، أو ربما دورية استطلاع تعمل خلف الخطوط، يراهم آخرون رافعة قوية، يعوّل عليها كثيراً، في إطار المعركة التاريخية الطويلة والشاملة.
إزاء ذلك كله، يمكن القول، بأسى؛ إنه مهما كانت الجراح الفلسطينية الأخرى غائرة، وكانت آلامها مبرحة، إلا أن أياً من سكاكينها لم يبلغ العظم، على نحو ما بلغه الجرح الجديد هذا.
العربي الجديد