في عام 1991 وبينما كانت حرب الخليج الثانية تضع أوزارها، خطب البرفيسور نجم الدين أربكان رئيس الوزراء التركي الأسبق في أعضاء حزبه محذراً من مؤامرة كبرى تحاك في الخفاء ضد تركيا وتستهدف إنشاء دولة كردية على حدودها الجنوبية.
كان أربكان يستشهد حينها بتصريح أدلى به عقيد في الجيش الأمريكي من قلب العاصمة السعودية الرياض لثلة من الصحفيين، أكد خلاله أن نواة دولة قومية كردية على وشك أن تتشكل في شمال العراق، مستغلة الظروف الإقليمية المستحدثة بعد اندحار نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين إبان تحرير الكويت وتكبده خسائر عسكرية هائلة. وأضاف أن تلك الدولة المزمعة ستتوسع لتشمل مناطق يقطنها الأكراد في سوريا وإيران وتركيا. وزاد الرجل أن الأكراد سيستحوذون على كميات كبيرة من أسلحة الجيش العراقي وعتاده، ناهيك عن دعم أمريكي لهم بأسلحة متطورة سترجح كفتهم في أي نزاع مسلح مع الدول الرافضة لنشوء الدولة الكردية كتركيا وإيران وسوريا. ورأى العقيد الأمريكي أن قيام الدولة الكردية المرتقبة في منطقة تتسم بتعقيدات المشهد الجيوسياسي سيقوي من نفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وسيخلق حليفاً مخلصاً للدولة العبرية.
وبعد أن سرد بالتفصيل ما صرح به العقيد الأمريكي، ختم رئيس الوزراء التركي حديثه بالقول.. إذا سقطت سوريا والعراق.. فإن تركيا ستسقط لا محالة، وستصبح إسرائيل القوة المهيمنة على منطقتنا. لم يكشف رئيس الوزراء التركي عن خيوط المؤامرة فحسب لكنه بدا لاحقاً وكأنه يطوي صفحة من العلاقات التركية الإسرائيلية التي كانت أقرب ما تكون إلى التحالف. فعلى الرغم من أن تركيا كانت أول دولة إسلامية تعترف بالدولة العبرية وقد نسجت معها علاقات متينة في ظل توتر علاقتها مع جيرانها العرب، فإن سنوات حكم أربكان بدت وكأنها تنذر بفرقة بعد تقارب وبعداوة بعد صداقة.
تمكنت الحكومة التركية بقيادة أردوغان من الحد من خطر المؤامرة القديمة الجديدة، دون القضاء عليها بشكل كامل. فأطبقت الحصار مع إيران والحكومة العراقية على إقليم كردستان وأرغمته على تجاوز نتائج الاستفتاء
أدرك أربكان أو أبو الإسلام السياسي في تركيا كما يحلو للبعض تسميته أبعاد المؤامرة وتفاصيلها ومدى الخطر الذي تشكله على الأمن القومي ومستقبل تركيا كدولة موحدة. ورأى أن في جنوح تركيا نحو الإسلام وابتعادها تدريجيا عن مبادئ العلمانية الصارمة سبباً آخراً في رغبة أمريكا وإسرائيل في النيل من بلاده مدعومة من أنظمة عربية ما انفكت تحارب تنظيم الإخوان المسلمين الذي نشأ أربكان نفسه في كنفه.
سنوات قليلة مضت قبل أن يطيح الجيش التركي صاحب الكلمة العليا وقتذاك بنجم الدين أربكان. ولعل برودة العلاقة مع الولايات المتحدة وبوادر العداء مع إسرائيل ناهيك عن عودة الإسلام لمفردات السياسة التركية كانت الأسباب الأهم التي أدت إلى تقويض سلطة أربكان وصولاً إلى عزله من قبل المؤسسة العسكرية التركية.
رجعت تركيا بعد أربكان إلى حضن العلمانية الصرفة، وبدا أن العلاقة مع إسرائيل وأمريكا قد عادت إلى نصابها وتراجعت نظرية المؤامرة على تركيا أو هكذا بدا. إلا أن صعود رجب طيب أردوغان تلميذ أربكان النجيب قد أيقظ المؤامرة من جديد. فالرجل وإن بدا أكثر حنكة من أستاذه في الحفاظ على التوازنات الداخلية وبالأخص في التعامل مع المؤسسة العسكرية صاحبة السطوة والنفوذ وفي فهم المتغيرات الدولية أيضاً، إلا أن تبنيه لرؤية أربكان بخصوص التآمر على تركيا بدا جلياً من خلال علاقاته الباردة مع أمريكا وعداوته العلنية مع إسرائيل فضلا عن فتور مع بعض دول الخليج التي رأت في أردوغان امتدادا لنهج أستاذه في تكريس الإسلام السياسي بمرجعيته الإخوانية.
ولم يمض أكثر من عام على توليه منصب رئيس الحكومة حتى اصطدم أردوغان بواقع الاحتلال الأمريكي للعراق وما نتج عنه من تعاظم مطرد لنفوذ الأكراد تجلى في سيطرتهم على الشمال العراقي وتأسيس كيان شبه منفصل عن الدولة العراقية. وقد بدا أن ما حذر منه أربكان قد أصبح أمرا واقعا في عهد أردوغان. فإقليم كردستان العراق بدا وكأنه يمضي بخطى حثيثة صوب تأسيس كيان منفصل عن الدولة العراقية عبر طرحه استفتاء على استقلاله، مدعوماً بعمق استراتيجي وامتداد جغرافي لأكراد سوريا الذين سيطروا على مساحات واسعة شرقي الفرات وشماله، مع دعم عسكري أمريكي أوروبي وآخر مادي إماراتي سعودي. كان لافتا في الاستفتاء دعم الدولة العبرية له مع ترحيب أبو ظبي والرياض واعتراض واشنطن ومعظم العواصم الأوروبية على استحياء، ليس على أحقية الاستفتاء أو مضمونه، بل على توقيته باعتباره قد يشتت جهود التحالف الدولي في حربه على تنظيم الدولة.
تمكنت الحكومة التركية بقيادة أردوغان من الحد من خطر المؤامرة القديمة الجديدة، دون القضاء عليها بشكل كامل. فأطبقت الحصار مع إيران والحكومة العراقية على إقليم كردستان وأرغمته على تجاوز نتائج الاستفتاء. ودخلت قوات عسكرية تركية إلى الشمال السوري فأوقفت تمدد المليشيات الكردية وقطعت مناطق اتصالهم الجغرافي وسط مخاوف أمريكية واعتراض إسرائيلي وشجب سعودي إماراتي بدا وكأنه صراخ على قدر الألم. وفيما بدا رغبة تركية في قطع المؤامرة من جذورها، أظهر الرئيس التركي إصراراً على إنشاء منطقة آمنة على طول الشريط الحدودي في الشمال السوري عن طريق إقناع روسيا بضرورة تفعيل اتفاقية أضنة التي تمنح تركيا الحق في دخول الأراضي السورية على عمق 5 كيلومترات لمحاربة التنظيمات الإرهابية وفي مقدمتها حزب العمال الكردستاني.
الظاهر للعيان أن كابوس المؤامرة الذي رآه أربكان قد انقلب حقيقة في عهد أردوغان. وأن تاريخ المؤامرة يعيد نفسه، والمتآمرون يعودون إلى جذور مؤامرتهم. فلم يكن على سبيل الصدفة إذاً إن تتشابه ملامح المؤامرة وتفاصيلها بين عهدي أربكان وأردوغان حد التطابق. مخطط أمريكي.. أداة كردية.. منتفع إسرائيلي.. مستفيد عربي.. في مواجهة تركيا برئيس إسلامي الهوى إخواني المنشا.
الجزيرة