ما زالت ملابسات الاستقالة المفاجئة لوزير الخارجية الإيراني، جواد ظريف، غير واضحة، وقد تبقى كذلك بعض الوقت، أخذا بالاعتبار الطبيعة المغلقة للنظام الإيراني والظروف الحساسة التي تمر بها البلاد، إلا أن لا صعوبة في فهم توقيتها وأسبابها، فظريف الذي اختاره الرئيس حسن روحاني ليقود الدبلوماسية الإيرانية، ويكون وجهها الضاحك لدى توليه مهام الرئاسة في شهر أغسطس/ آب 2013، يعلن باستقالته انتهاء مرحلة وبداية مرحلة جديدة لا مكان له فيها.
قرّر النظام في إيران، في عام 2013، أن مرحلة المواجهة مع الغرب قد بلغت نهايتها، وتجاوزت غاياتها، وأن هناك فرصة ذهبية للقطع مع الماضي، وبدء مرحلة جديدة من العلاقات مع واشنطن، بوجود رئيس في البيت الأبيض لديه الاستعداد لإعادة النظر بتحالفاته في الشرق الأوسط، بعد أن ضاع رهانه على العرب والأتراك (القاهرة وأنقرة) مع فشل الربيع العربي، وبات ينظر إلى إيران باعتبارها قوة إقليمية أقدر على تحقيق المصالح الأميركية في الشرق الأوسط، كما كانت خلال الفترة (1953- 1978).
الإشارات من واشنطن تلقاها المرشد سريعا، وقرر أنه حان لتيار أحمدي نجاد أن يرحل، ومعه عدتّه الأيديولوجية وخطبه النارية، وأن يأتي تيارٌ آخر مهمته الرئيسة ترتيب العلاقة مع واشنطن، رفع العقوبات التي بات تأثيرها مدمّرا على الاقتصاد والنظام والمجتمع، وبدء مرحلة جديدة تسلم فيها إيران برنامجها النووي، وتظفر في المقابل بنفوذها الإقليمي، باعتراف واشنطن وموافقتها. وعليه، ذهب الوجه “الأيديولوجي” للنظام، وجيء بوجهه “البراغماتي”، ممثلا بروحاني وظريف، ولتنطلق المفاوضات سرًا أول الأمر في سلطنة عُمان، ثم تغدو علنيةً، قبل أن تتحول، في مرحلة لاحقة، إلى علاقة صداقة حميمة جمعت ظريف بجون كيري (وزير خارجية أوباما)، الذي كان لا يفوّت مناسبة للقاء ظريف، بسبب وأحياناً من دون سبب، حتى أنه التقاه نحو 20 مرة خلال ثلاث سنوات (2013 – 2016)، واجتمع به أربع مرات بعد تركه منصبه (توقف بعد أن حذّرته إدارة ترامب من الاستمرار في ذلك). وعلى الرغم من أن صعود تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أفسد على أوباما سعادته بالاتفاق النووي مع إيران، إلا أنه وجد في المقابل سببًا آخر للمضي في تغيير تحالفاته في المنطقة، خصوصا وأن المليشيات الإيرانية باتت تمثل جيشا فعليا له على الأرض في العراق في محاربة “داعش”.
لم يكن التفكير بالتحول نحو استعادة دور إيران قطبا إقليميا في المنطقة مقتصرا على أوباما، بل شمل جزءا كبيرا من المؤسسة الحاكمة في واشنطن، وكان يُفترض أن يصل مع هيلاري كلينتون، لو فازت في انتخابات عام 2016، إلى خواتيمه المأمولة، خصوصا مع استمرار التباعد مع السعودية، وفتور العلاقة مع الرئيس أردوغان في تركيا، وتلاشي دور مصر في ظل حكم عبد الفتاح السيسي، وعدم قدرة إسرائيل على القيام بأعباء الدور الذي تريده واشنطن من قوة إقليمية كبرى. لكن المفاجأة التي “أفسدت” كل هذه الترتيبات، وقضت على جهود أربع سنوات من العمل المشترك بين طهران وواشنطن، تمثلت بفوز ترامب الذي أعلن، منذ اليوم الأول لرئاسته، عزمه القضاء على إرث أوباما وإعادة العلاقة مع إيران إلى المربع الأول.
كان يفترض بظريف أن يغادر مع إعلان ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي في مايو/ أيار من العام الماضي، وعودة العقوبات، لكنه قرّر البقاء محاولا عبثا إنقاذ إنجازه الأكبر الذي كاد يغيّر وجه المنطقة، لو استمر خط أوباما في حكم واشنطن. حاول الأوروبيون إقناع إيران بالبقاء في الاتفاق بإيجاد آلية مصرفية للالتفاف على العقوبات الأميركية، لكن ظريف كان يدرك أن أوروبا تشتري له وقتا فقط في مواجهة التيار المتشدّد في طهران، على أمل أن يذهب ترامب في انتخابات 2020. قالها المرشد، علي خامنئي، بوضوح قبل أيام، “أوروبا تخدعنا”، والمرشد يعرف أيضا أنه لا قيمة لاتفاق نووي من دون واشنطن، فهدفه كان أصلا إنهاء المواجهة وتغيير العلاقة معها. أما وقد فشل ذلك، فقد بات لزاما الاستعداد لمعركةٍ صعبة مع ترامب، لن تنفع معها ابتسامة ظريف التي أحبها جون كيري والأوروبيون.
العربي الجديد