يعتقد ساسة واشنطن أن إيران ستغير سياساتها في سورية، بمجرد أن تتوصل الولايات المتحدة إلى تسوية معها في الموضوع النووي. يقفز هذا الوهم عن مشكلتين رئيستين يواجههما العالم مع إيران، صواريخها متوسطة وبعيدة المدى، والتفاهم معها على دورها الجديد في النظام الإقليمي الذي سيترتب على حقبة الفوضى الراهنة، وسيلعب التمهيد لبلوغه دوراً رئيسياً في تعيين صورة المنطقة المقبلة، بدءاً بحل المسألتين السورية والعراقية، مع العلم بأن طهران لن تقبل حلا كهذا، إذا لم يحفظ علاقاتها الخاصة ونفوذها في دمشق وبيروت، حيث لها روابط وجودية مع النظام الأسدي وحزب الله، تريد الإبقاء عليها في سورية، لضمان هيمنتها على لبنان، وقبولها التكيف مع وضع إقليمي جديد، يتطلب إجراء تعديلات مهمة على سياساتها، مع بقاء سورية ساحة نفوذ لها، لا بد من أن تربطها علاقات مميزة مع نظام ما بعد الأسد، تصون سيطرة “دولتها العميقة”، الخاصة جداً والحميمة، مع سورية، وتضمن اختراقها النظام في دمشق الذي منحها هذه السيطرة، أمس، ويجب أن يمنحها غداً، لا مثيل لها في أي بلد عربي، يرتبط بها وجود حزب الله في لبنان، وسيطرة الشيعة السياسية في العراق، وتحكم إيران بما يسمونه “محور طهران/ بيروت” الذي يمثل جوهر دورها العربي.
قد تتخلى إيران عن برنامجها الصاروخي، لكنها لن تتخلى عن النظام الأسدي، إلا متى صار تمسكها به خطيراً على نظامها، فهل تمارس واشنطن سياساتٍ تحمل مثل هذا الخطر على طهران؟ بغير ذلك، ستستمر إيران في دعم الأسدية والإمساك بسورية، لاستخدامها ساحة تصارع، فيها وعبرها، أطرافا عديدين، عربية وإقليمية ودولية، فسورية الأسد هي درة الاستراتيجية التوسعية الإيرانية، والدولة العربية الوحيدة، التي نجحت في اختراقها والتحكم بها كجهة تلعب دوراً حاسماً في بسط نفوذها وسيطرتها على جوارها، وتعزيز قدرتها على اختراق العرب وغزوهم، بمعونة مجاميع داخلية موالية، دربتها وسلحتها ومولتها، هي فصائل خارجية من جيشها، تنوب عنه في تنفيذ ما يريده داخل بلدانها، كما أكد قادتها مرات متكررة، حين أعلنوا أن النظام السوري ضمانة وجود للجمهورية الإسلامية، وكيان مفصلي في تكوين إمبراطوري تنشره بين أفغانستان والمتوسط ،هو ركيزته المجاورة لاسرائيل في الغرب، وللخليج بنفطه وأمواله في الشرق، والتي مكّنتها من الوصول إلى حدود الأولى في الغرب، ومن اختراق الشرق، ووضعت موقعها الغربي في خدمة حزب الله، وقدراتها وعلاقاتها مع الشرق، تحت تصرف أتباع طهران، تحقيقا لمآرب مذهبية مشتركة، تتخطى السياسة، وتطلق صراعات مليئة بالأسرار والمؤامرات.
لا يرى قادة طهران في سورية مكاناً خارجياً له خصوصياته ومصالحه الخاصة المنفصلة عنهم، لذلك يرفضون رؤية الهوية الحقيقية للثورة السورية، ويعتبرونها مؤامرة عليهم بالدرجة الأولى، يحتم فشلهم في صدّها سقوط نظامهم: المستهدف الحقيقي بها كفعل إمبريالي/ صهيوني/ أصولي جيد الحبك. وقد أوكل الملالي إدارة دورهم في الصراع السوري إلى أحد عتاة قادتهم الأمنيين: الجنرال قاسم سليماني، الذي وضع خطة من محورين: القضاء على الثورة في عموم سورية، أو إقامة دويلة طائفية فئوية في ساحلي سورية ولبنان، تحفظ موقع إيران ودورها في المشرق، واستمرار التماس الجغرافي بينها وبين فلسطين، وتمارس عمليات خنق منظم ومديد لبقية مناطق سورية، حيث يفترض أن تقوم دولة بديلة للأسدية.
سيضيّع العالم وقته وسيهزم، إن صرف جهوده إلى هدف عبثي يتوهمه سهل التحقيق، هو إخراج إيران من سورية بالمساومات السياسية. وسيلحق بها هزيمة لن يكون تحقيقها سهلاً، إن وضع يده في يد “شعب الجبارين” السوري ودعمه، ليحول بينها وبين نجدة نظام أسدي بلغ الحضيض، وليطردها من وطنه، مع ما سيترتب على هذين التطورين من تبدل إيجابي في البيئة الاستراتيجية للمنطقة والعالم، ومن حرية ستعم بركاتها مشارق عالم العرب ومغاربه، وإيران أيضا، التي سينال شعبها، أخيراً، الحرية التي أسقط من أجلها نظام الشاه، ففوّت الملالي الفرصة عليه، وأخضعوه لاستبداد أشد وحشية من أي شيء سبق له أن خضع له.
سنعرف قريبا أي هذين البديلين ستختار واشنطن. عندئذٍ، سنعرف أيضا متى تنتهي مأساة سورية، وأية خيارات وسياسات ستشهد المنطقة؟
سنعرف قريبا أي هذين البديلين ستختار واشنطن. عندئذٍ، سنعرف أيضا متى تنتهي مأساة سورية، وأية خيارات وسياسات ستشهد المنطقة؟
ميشيل الكيلو
صحيفة العربي الجديد