نساء أولات بأس شديد.. حكمن العالم بالحديد والنار

نساء أولات بأس شديد.. حكمن العالم بالحديد والنار

c3

بالرغم من أن المُلك والحُكم شأنٌ من شؤون الرجال؛ إلا أن التاريخ يزخر بنماذج نسائية لملكات وإمبراطورات وسلطانات حكمن العالم برباطة جأش وبأس شديد، وتركن بصمتهن الواضحة في كتب التاريخ، ولا زالت أصداء أسمائهن تتردد في كل حين.

ومن هؤلاء الملكات اللاتي حكمن العالم:

“شجرة الدر” سلطانة مصر

شجرة الدر

أو عصمة الدين أم خليل. وشجرة الدر هو اللقب الذي أطلقه عليها الملك الصالح، الخليفة السابع للسلطان صلاح الدين؛ عندما رآها تتزين بالدر واللآلئ الكثيرة.

كانت جارية من أصل شركسي، وقيل إنها خوارزمية الأصل، وذكرت بعض مصادر التاريخ أنها أرمينية أو تركية. لكنها لم تكن كباقي الجواري؛ حيث تميزت بالذكاء الحاد، وسرعة البديهة، وكانت فاتنة، وتجيد القراءة والكتابة والغناء.

اشتراها الصالح أيوب قبل أن يكون سلطانًا، ورافقته في فترة اعتقاله في الكرك سنة 1239، وأنجبت ولدًا اسمه “خليل”، لُقِّبَ بـ “الملك المنصور”. وبعدما خرج الملك الصالح من السجن، ذهبت معه إلى مصر وتزوجا هناك.

تولت عرش مصر لمدة 80 يومًا بمبايعة من المماليك وأعيان الدولة بعد وفاة السلطان الصالح أيوب. حيث نادت بنفسها سلطانة على مصر، وتولت الُملك بعد وفاة زوجها وسيدها الصالح أيوب؛ إنقاذًا للأسرة المالكة والحول دون انقراضها.

ولعدم وجود وريث شرعي للبلاد، وخاصة بعد مقتل توران شاه ابن الملك الصالح؛ اضطر قادة الجيش وأعيان الدولة إلى الاعتراف بها كسلطانة لمصر؛ إلا أن العلماء والخطباء قاموا على المنابر، وفي المحافل العامة والخاصة، ليستنكروا اعتلاء امرأة لعرش مصر، وكان من أشد العلماء غضبًا وإنكارًا الشيخ الجليل العز بن عبد السلام، أبرز العلماء في ذلك الوقت.

أما الأمراء الأيوبيون في الشام فأظهروا اعتراضًا كبيرًا على صعود النساء إلى كرسي الحكم في مصر. كما رفض الخليفة في بغداد الاعتراف بها، وأرسل قائلًا: “إن كانت الرجال قد عدمت عندكم أعلمونا، حتى نسير إليكم رجلًا!”، غير أن  الأمر الذي دفعها للزواج بأحد المماليك؛ حفاظًا على العرش. فتزوجت من الأمير عز الدين أيبك التركماني سنة 1250م -الذي لُقّب لاحقًا بالملك المعز- وتنازلت له عن العرش. وإليها يرجع الفضل في احتفاظ المماليك بالعرش في مصر حتى بزوغ الحكم العثماني.

وخلال الفترة القليلة التي حكمت فيها مصر بمفردها، استطاعت أن تنظم شؤون البلاد، وأصدرت مرسومًا بتخفيض الضرائب على الشعب، ونبغ في فترة حكمها العديد من الأدباء والشعراء، كما لعبت دورًا تاريخيًا هامًا أثناء الحملة الصليبية السابعة على مصر؛ حيث هزمت الصلبيين فى المنصورة بقيادة لويس التاسع الذي طُوّب قديسًا بعد وفاته وصار يُعرف بـ “سانت لويس”.

 وشجرة الدر هي أول من أمرت بتسيير المحمل كل عام من مصر إلى الحجاز في موسم الحج، مُحمّلًا بكسوة الكعبة والمؤن والأموال لأهل البيت. وكانت شجرة الدر أول سلطانة لها مارش خاص بها؛ اذ كانت تستمع إلى المارش الخاص بها كل يوم بالمساء، يوقعه الموسيقيون على عتبة القلعة. كما صكت نقودًا باسمها وكتبت عليها “المستعصمية الصالحية ملكة المسلمين والدة خليل أمير المؤمنين”، في إشارة إلى استقلالها عن الخليفة المستعصم في بغداد.

والسلطانة التي كانت ملء السمع والبصر، وأول ملكة حكمت مصر في الإسلام، ماتت موتة شنيعة -كما تذكر المراجع التاريخية-؛ بعدما تآمرت على قتل الملك المعز أيبك، عندما علمت بنيته للزواج من ابنة صاحب الموصل. فما كان من مماليكه إلا أن حملوها إلى “أم علي”، زوجة عزالدين أيبك الأولى، التي أمرت جواريها بقتلها؛ فقاموا بضربها بالقباقيب على رأسها وألقوا بها من فوق سور القلعة، ولم تدفن إلا بعد عدة أيام، بعد أن حملت في قفة ودفنت قرب مشهد السيدة نفيسة الذي لا يزال إلى اليوم بقسم الخليفة بالقاهرة.

وجدير بالذكر أن مؤرخي عصر المماليك أثنوا عليها ولم يذكروها إلا بالخير؛ حيث قال “ابن تغري بردي” عنها: “كانت خيّرة دَيِّنة، رئيسة عظيمة في النفوس، ولها مآثر وأوقاف على وجوه البِرّ، معروفة بها“.

“الزباء” ملكة تدمر

زنوبيا أو الزباء ملكة تدمر

“زنوبيا” أو “بات زباي” بالآرامية، والتي عُرفت عند العرب بـ “الزباء” لشدتها وقوة حكمها، ولطول شعرها. وهي بنت عمرو بن الظرب بن حسان بن أذينة بن السميدع. أمها ذات أصول إغريقية، وقيل بطلمية، وكانت فائفة الجمال ومولعة بالصيد والقنص، وذات رأي وحكمة وحدّة نظر. كانت “الزباء” تُجيد اللغة “الهيلينية” و”الآرامية” -اللغة السورية القديمة- وبعض “اللاتينية الرومانية” و”الإغريقية” و”القبطية”، بالإضافة إلى اطلاعها الواسع على تاريخ الشرق والغرب. وقد كانت زوجة “أذينة الحيراني” الملقب بسيد الشرق الروماني وملك الملوك، ملك تدمر، الذي امتدت سلطته إلى “سوريا” وسائر آسيا الرومانية. وكان كلما خرج إلى الحرب أناب زوجته “الزباء” عنه لتحكم “تدمر”.

بعدما توفى “أذينة” في ظروف غامضة، اعتلت “الزباء” عرش “مملكة تدمر”، باسم ابنها “وهب اللات”؛ فتولت عرش المملكة وازدهرت “تدمر” في عهدها. وعلى  الرغم من صغر سنها؛ إلا أنها استطاعت بفضل ذكائها وحنكتها أن تقود “تدمر” نحو الازدهار والتوسع؛ حيث امتد نفوذها على مناطق جغرافية عديدة، وأطلقت عليها اسم “الإمبراطورية الشرقية مملكة تدمر”، والتي أصبحت في ذلك الوقت واحدة من أهم الممالك وأقواها في الشرق.

أنشأت “الزباء” جيشًا قويًا، واستولت على العديد من البلدان. وصارت “تدمر” طريقًا تجاريًا تأتيه القوافل من كل حدب وصوب؛ فزاد ثراء المملكة حتى نافست “روما” في العظمة. الأمر الذي هدد مكانة “روما”؛ فأدى إلى إساءة العلاقات بين “الزباء” وبين الإمبراطور الروماني؛ مما جعله يرسل جيشًا من أجل الاستيلاء على “تدمر”. لكن “الزباء” هزمت جيشه شر هزيمة، وبعدها أرسلت جيوشها لاحتلال مصر، ومنعت جيوش الرومان من الاتصال بروما، وعززت علاقاتها مع “الحبشة” و”جزيرة العرب، وتوسعت مملكتها حتى وصلت جيوشها إلى المملكة البيزنطية.

ولما رأى إمبراطور روما “أورليانوس” انتصاراتها المتتالية واتساع نفوذها، خشي على حدود إمبراطوريته منها؛ فدعاها إلى التفاوض في مقابل الإقرار بامتيازات ابنها الملكية، لكنها رفضت وواصلت تحديها له. حيث قامت بإصدار عملة خاصة بتدمر، وصكت النقود في إنطاكية، وطبعت عليها صورة “وهب اللات” على وجه وعلى الوجه الثاني صورة الإمبراطور أورليانوس، ثم أزالت صورة الإمبراطور من على النقود؛ تمييزًا للنقود التدمرية عن نقود روما.

فما كان من الإمبراطور الروماني إلا أن سيّر جيشًا عظيمًا بقيادة القائد (بروبوس) إلى مصر في 271 م، وجيشًا آخر قاده شخصيًا، وتوجه به إلى سوريا وآسيا الصغرى. فالتقى الجيشان ودارت معركة كبيرة بين مملكة تدمر والإمبراطورية الرومانية، احتل على إثرها (بروبوس) مصر، ووصل الإمبراطور أورليانوس إنطاكيا، وانهزمت “الزباء”، وانسحبت نحو “تدمر”؛ فتعقبها “أورليانوس” حتى بلغا مدينة حمص، فدارت بينهما معارك شرسة، انهزم فيها جيشها. فحاصر الإمبراطور “تدمر” حصارًا محكمًا حتى نفدت مؤن الطعام في المدينة، التي قاومت الغزاة بشجاعة؛ حيث أعلنت “الزباء” القتال حتى الموت. عرض الإمبراطور عليها التسليم والخروج سالمة من المدينة؛ إلا أنها رفضت، وحاولت الهروب، ووصلت حتى نهر الفرات، لكنها وقعت في الأسر واقتيدت إلى الإمبراطور الذي أحسن معاملتها عام 272م، ثم اقتادها أسيرة إلى روما. وهناك سُجنت “الزباء” في منزل أعده لها “أورليانوس”، لكنها آثرت الانتحار، كما أجمعت معظم المراجع التاريخية.

“ديهيا” الأمازيغية.. ملكة الأوراس

ديهيا أو الكاهنة

“ديهيا” أو “تيهيا”، بنت تابنة، وبنت ينفاق الزناتية، من بني جروة من القبائل البربرية البترية الكبيرة، المعروفة تاريخيًا لدى العرب بالكاهنة. وتُعرّف “الكاهنة” في المصادر التاريخية الأجنبية والعربية والبربرية القديمة والحديثة على أنها فارسة أمازيغية، شجاعة وقوية البنيان.

و”ديهيا” قائدة عسكرية خلفت الملك أكسيل في حكم الأمازيغ، وحكمت شمال إفريقيا. وكانت مملكتها الشاسعة تشمل الجزائر وتونس وليبيا. وعاصمتها هي مدينة خنشلة في الأوراس شرق الجزائر. وقد قال عنها المؤرخ ابن عذاري المراكشي: “جميع من بإفريقيا من الرومان منها خائفون وجميع الأمازيغ لها مطيعون“.

 قادت “ديهيا” عدّة حملات ومعارك ضد الرومان والأعراب والبيزنطيين؛ وذلك من أجل استعادة الأراضي الأمازيغية التي استولوا عليها في أواخر القرن السادس ميلادي. وبسبب شجاعتها؛ لم يكرهها المسلمون، بل احترموها، واعتبروها رمزًا من رموز الذكاء والتضحية الوطنية، وورد ذكرها عند الكثير من المؤرخين المسلمين. حيث تمكنت في نهاية هذه الحروب من استعادة معظم أراضي مملكتها، بما فيها مدينة خنشلة، بعدما هزمت الرومان هزيمة نكراء. واستطاعت توحيد أهم القبائل الأمازيغية تحت رايتها من أجل الزحف نحو جيوش الأعراب. حيث استطاعت “ديهيا” أن تلحق هزيمة كبيرة بجيش القائد حسان بن النعمان عام 693م، وطاردتهم إلى أن أخرجتهم من تونس وأجبرت من بقي منهم على الفرار نحو مصر. وعندما علمت “ديهيا” بتقدم جيش حسان، بادرت بتحرير مدينة خنشلة من الاحتلال الروماني وهدمت حصونها؛ حيث يذكر المؤرخون أن القائدة الأمازيغية كانت تظن أن العرب مثل الرومان، يسعون وراء العمران. فدمرت الحصون، وحرقت المدن والبساتين، حتى يزهد العرب في بلاد خراب؛ فيعودون من حيث أتَوا. ويذكر “ابن عذاري”: إن الكاهنة عملت للقضاء على مظاهر العمران، اعتقادًا منها بأن العرب يسعون وراء العمران، حيث الذهب والفضة؛ فوجهت قومها إلى كل ناحية في بلاد إفريقية يحرقون المزارع، ويهدمون الحصون؛ فبعد أن كانت إفريقيا ظلًا واحدًا من طرابلس إلى طنجة، قرى متصلة ومدنًا منتظمة، تلاشى هذا كله، وشمل الخراب سائر هذه البلاد.

والتقت “ديهيا” بجيش حسان بن النعمان في وادي مسكيانة، وانتهت الحرب بتراجع حسان. لكنها تركته يرحل بجيشه نحو ليبيا دون أن تُلحق به أذى. ومما يذكره التارخ لها، أنها عندما تتبعت جيش حسان بن النعمان إلى تخوم تونس، لم تخرّب القيروان ولم تقتل المسلمين المتواجدين فيها ولم تُنكّل بهم؛ بل عادت برجالها إلى مقر عاصمتها بالأوراس؛ الأمر الذي يعني أن ثورتها كانت تستهدف طرد الأعراب من بلادها إلى خارج إفريقيا. وبسبب انتصاراتها العظيمة؛ ادّعى عليها الأعراب أنها انتصرت بالشعوذة والسحر، ولقبوها بالكاهنة.

وعندما عادت الكاهنة إلى موقعها في جبال أوراس النمامشة، اجتمعت بالأسرى الثمانين، واكتشفت أنهم لم يأتوا مستعمرين، وإنما يحملون رسالة، فسألتهم عن عاداتهم وتقاليدهم؛ فوجدت توافقًا غريبًا بينها وبين عادات وتقاليد قومها؛ فأطلقت سراح الأسرى، واحتفظت بأذكاهم وأوسعهم ثقافة وحفظًا للقرآن وتفقهًا في الدين، وهو “خالد بن يزيد العبسي”، وكلفته بتعليم ولديها العربية والقرآن، وقامت بتبنّي “خالد”، وِفقًا لشعائر قومها.

ويذكر المؤرخون أن الكاهنة ضعف حماسها بحربها ضد العرب، فقررت تحرير ولديها وحثهم على عدم اتباعها في حربها. أما هي، فلأنها وعدت قومها عند تعيينها ملكة عليهم أن تقاتل في سبيلهم حتى الموت؛ فاضطرت للوفاء بعهدها. ويؤكد المؤرخون أنه عندما وصل جيش حسان إلى إفريقيا وتوجه إلى منطقة تبسة، حيث ترابط الكاهنة؛ غادرت المنطقة واتجهت نحو الجنوب، بعد أن أوصت خالد العبسي أن يصحب ولديها ويستأمن لهما عند حسان. ويُروى عنها فيما ذكره “ابن خلدون”، أنها قالت لولديها وهي تودعهما: خذ يا خالد أخويك إلى حسان، أوصيكما يا ولديّ بالإسلام خيرًا، أما أنا؛ فإنما الملكة من تعرف كيف تموت.

وخاضت “ديهيا” آخر معركة لها في منطقة “بئر العاتر”، وهُزم جيشها وقتلت في المعركة جنوب ولاية تبسة، وما زالت حتى الآن البئر التي حفرتها عندما حصرها العرب ومنعوا عن جيشها الماء قائمة تدر الماء، ويسميها الناس في هذه المنطقة “بئر الكاهنة”.

تسنيم فهيد

التقرير