تقف السياسة التركية بعد ثماني سنوات من الأزمة السورية على مفترق طرق، ورغم كل المحاذير التي اتخذتها، إلا أنها لم تستطع أن ترضي أطراف الأزمة داخليا ولا خارجيا، لا محليا ولا إقليما ولا دولياً، بل وجدت نفسها في مشاكل مع الأطراف الداخلية من فصائل الثورة السورية، فتركيا فتحت أراضيها لكل مؤتمرات قوى المعارضة السورية، ومؤتمرات أصدقاء سوريا، وزيارات المسؤولين الدوليين المتابعين للأزمة السورية، وشاركت في جنيف وأستانة وسوتشي وغيرها، فضلًا عما تحملته من خسائر مالية كبيرة على حماية ورعاية اللاجئين السوريين داخل الأراضي التركية، فاللاجئون السوريون تجاوزا ثلاثة ملايين لاجئ، كان المأمول أن يكون مكوثهم في تركيا قصيرا، ولكن مكوثهم تجاوز كل التقديرات، وتحولوا إلى عبء اقتصادي واجتماعي وأمني.
لقد كان التحدي الأول والأكبر أن السياسة التركية لم تستطع جمع فصائل الثورة السورية على تحالف واحد، وبقيت فصائل الثورة السورية تتجاذبها كل أنواع وأطراف الصراعات الإقليمية والدولية، وفتحت المعارضة السورية السياسية والمسلحة منصات لها في أكثر من عاصمة عربية ودولية، كل واحدة منها لها رؤيتها في الحل أولاً، وتبحث عن حصتها فيه ثانياً، وتتلقى دعما من جهات دولية مختلفة ثالثاً، وفي النهاية لم تستطع السياسة التركية جمع هذه المنصات على منصة واحدة، وهذا بلا شك كان أحد أسباب ضعف الثورة والمعارضة السورية، وأخر نجاحها وجعلها تائهة في البحث عن دور لها أو رؤية حل سياسي مقبول.
كما أن سياسة تركيا لم تستطع أن ترضي أكبر طرفين إقليميين في المنطقة، إيران والسعودية بالحل الذي ينبغي انتهاجه لمستقبل سوريا، وبقيت مواقفها السياسية تحاول إرضاء كلا الدولتين بدون نجاح، بل فرضت الخلافات السعودية الإيرانية إحراجا أكبر لتركيا، فهي في لحظة ما اعترفت بأن السياسة الإيرانية في سوريا والمنطقة سياسة عدوانية، بل غزوا فارسيا للبلاد العربية، وأن إيران تمارس سياسة طائفية بغيضة، وقامت تركيا بتوجيه كثير من النقد للعدوان الإيراني في المنطقة، ولكنها لم تستطع الاصطفاف مع السعودية، بدرجة ترضي السعودية أو تقنعها بأن سياستها نحو إيران حاسمة وحازمة، بل سعت الحكومة التركية لزيادة ميزان تبادلها التجاري مع إيران، بالأخص في قطاع النفط والغاز، في ظل أزمات اقتصادية كبيرة تعاني منها تركيا.
والتحدي الثالث أمام السياسة التركية هو محاولتها إرضاء أكبر طرفين دوليين متنازعين أو متنافسين في سوريا، وهما الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الروسي، فتركيا عوّلت كثيرا على أن تمارس أمريكا سياسة حازمة في منع القتل والمجازر والحرب الكيماوية في سوريا، وكثيرا ما تأملت تصريحات الرئيس الأمريكي السابق أوباما، بأن بشار الأسد فقد شرعيته في البقاء في الحكم، وعلى أن أيام الأسد باتت قصيرة، ولكن أمريكا خدعت تركيا وخدعت الدول العربية وخدعت المعارضة السورية التي انتظرت منها التأييد والحزم، الذي ينهي جرائم الأسد، وجرائم الحرس الثوري الإيراني، والمليشيات الطائفية التابعة له، ولكن أمريكا كانت تنظر إلى الصراع في سوريا بعيون غير تركية ولا عربية ولا إنسانية، وإنما كيف تستثمر هذا الصراع لمصالح أمريكا فقط، ومنها ضمان أمن إسرائيل، ومواصلة بيع الأسلحة والأدوية في ميادين الحرب، ومحاولة إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، بما يضمن لأمريكا أكثر من تقسيمات سايكس بيكو قبل مئة عام، أي أن التقسيم جزء أساسي من الاستراتيجية الأمريكية ولو طال زمن تنفيذها.
أدركت تركيا ولو متأخرا أنها أخطأت في التعويل على الإدارة الأمريكية لإنهاء الصراع في سوريا، بما ينهي مأساة الشعب السوري بعدالة وإنسانية، فأخذت تتلمس إمكانية التعاون مع روسيا بما يحفظ دماء الشعب السوري، ولا ينكر المصالح الروسية في سوريا، ووجدت مراوغة روسية في البداية، بدت وكأنها توافق السياسة التركية في سوريا، وكان لقاء الرئيس التركي أردوغان مع الرئيس الروسي بوتين بتاريخ 23 سبتمبر 2015، بتعهد بوتين بتشكيل لجنة دولية من روسيا تركيا وأمريكا لإيجاد حل في سوريا، ولكن وبعد أسبوع واحد من ذلك التاريخ، قامت روسيا بغزو سوريا بحجة محاربة «داعش»، ووجهت كل قصفها الجوي ولأكثر من سنتين ضد المعارضة السنية السورية، ودمرت قواعدها المسلحة، ودمرت البنية التحتية للشعب السوري المدني، الذي يؤيد تلك المعارضة، فتبين أن روسيا أخذت وجهة النظر، أو استجابت لطلب النجدة من قاسم سليماني، للتدخل الروسي قبل أن يسقط حكم بشار الأسد، بعد أن أعلم قاسم سليماني الرئيس بوتين أن الوضع صعب جدا أمام بشار وإيران، ولا بد من التدخل الروسي السريع، وهكذا تبين لتركيا أن مساعيها لإقناع روسيا بحل سياسي عادل فشلت.
تركيا في أزمات كبيرة بسبب سوريا، من أكبرها الآن تقرير مستقبلها بين روسيا وأمريكا
وقد رحبت تركيا بتحسين علاقاتها مع روسيا بوتين، وبالأخص بعد الأزمة التركية الروسية بسبب إسقاط طائرة روسية فوق الأراضي التركية في 2016، فأعادت تركيا آمالها بالتعاون مع روسيا لإيجاد حل سياسي عادل في سوريا، وبالأخص بعد إدراكها فشل الجيش الروسي في تحقيق أهدافه بالقضاء على المعارضة السورية وفصائلها المسلحة أولاً، وعجز إيران أو خداعها لبوتين ولابروف بأنها سوف تقضي على المعارضة، بعد التدخل العسكري الروسي الجوي، فكان فشل روسيا وفقدانها الثقة بإيران ثانياً، وإحراج بوتين داخليا أمام شعبه، بسبب تأخر حسمه العسكري في سوريا ثالثاً، من أسباب عودة روسيا لتركيا، فوجدت تركيا نفسها أمام فرصة لتحسين أوضاعها مع روسيا، وزادت في صداقتها في المجالات التي ترفضها أمريكا بكل حزم وإصرار.
لقد وقعت روسيا مع تركيا مشروع السيل التركي لبيع الغاز الروسي لأوروبا عبر الأراضي التركية، وهذا بدرجة ما بديل عن خط تزويد اوروبا عبر أوكرانيا، وهو مشروع اقتصادي كبير لتأمين تركيا بالغاز الروسي أولاً، وجلب مصادر تمويل للاقتصاد التركي ثانياً، وزادت تركيا ميزانهما في التبادل التجاري لمستوى مئة مليار في السنوات المقبلة ثالثاً، وبلغت السياحة الروسية لتركيا أعلى مستوياتها في السنة الماضية رابعا، كل ذلك أزعج أوروبا وأمريكا، ولكن ما يزعجها أكثر توصل تركيا إلى اتفاقيات سياسية لحل الأزمة السورية في مؤتمر أستانة وخارج جنيف، وهذا لم يكن ليرضي أمريكا، فلم تشارك فيه ولم ترفضه، وحضرته بصفة مراقب، ولكن ما أغضب أمريكا والبنتاغون التعاون العسكري التركي الروسي، ومن أهمها صفقات صواريخ إس 400 من منظومات الدفاع الجوي الأرقى عالميا، فأمريكا أعربت عن رفضها سريا، وكلما اقترب موعد تسليم تركيا هذه الصواريخ ترتفع الأصوات الأمريكية المعارضة أكثر فأكثر، كما ان أمريكا قلقة من التعاون العسكري التركي الروسي في سوريا، وتسعى لمعرفة أسراره وأخطاره.
هكذا وجدت السياسة التركية نفسها أمام التحدي الثالث في سوريا، وهو التحدي الدولي في التوفيق بين تعاونها مع روسيا أو مع امريكا، فتركيا لا تستطيع الاستغناء عن تحالفها السياسي والعسكري والاقتصادي مع أمريكا والغرب، فالجيش التركي جزء مهم وكبير من حلف الناتو الغربي، وإدخال أسلحة روسية متقدمة عليه يعتبر خرقاً لحلف الناتو ومنظومته العسكرية، ورفض أمريكا لشراء تركيا لهذه الصواريخ الروسية يحرج تركيا في تعاونها مع روسيا في سوريا، فتركيا تستعين بروسيا في القضاء على انفصال شمال سوريا من المنظمات الإرهابية التابعة لحزب العمال الكردستاني، ومنها منظمة «قسد»، التي صنعتها امريكا باسم قوات سوريا الديمقراطية، وهي مجرد أداة أمريكية لتقسيم سوريا ولو بعد حين، وتركيا وجدت في روسيا شريكا قويا تعتمد عليه ضد تقسيم سوريا، وشريكا قويا يمنع تهديد الأمن القومي التركي من قبل أمريكا أو غيرها.
إن تركيا في أزمات كبيرة بسبب سوريا، من أكبرها الآن تقرير مستقبل تركيا بين روسيا وأمريكا، ومن أجل ذلك زار أنقرة مؤخراً نائب وزارة الخارجية الأمريكي، ماثيو بالمر، والمبعوث الخاص للملف السوري، جيمس جيفري، ولسان حالهما لسان وزارة الخارجية الأمريكية إن شراء إس- 400 يضع تركيا في خطر الحصول على طائرات F-35»… ، ومن المرجح أن يؤدي الاتفاق مع روسيا إلى تعرّض تركيا لعقوبات أحادية الجانب من واشنطن، تحت قانون مكافحة أعداء أمريكا بقانون العقوبات جاستا، كما أن المصدر نفسه أشار إلى أن امريكا تعتقد أنه لا يجدر بها بيع أنظمة صواريخ باتريوت المضادة للطائرات لأنقرة ما لم تتخل تركيا عن شراء إس-400.
القدس العربي