تصيح النسوة الخارجات من الباغوز بعبارات التأييد الشهيرة للتنظيم (دولة الإسلام باقية) وغيرها من شعارات للتنظيم رددتها عائلات، معظمها تضم مقاتلين من التنظيم تركوهم وراءهم في المربع الأخير المحاصر، ولكن التصريح الأكثر إثارة للانتباه، الذي صدر عن النسوة الجهاديات، هو قولهم «إن الله أمرهم بالخروج من الباغوز» مبررين ذلك بأن الله لم يأمرهم بتهلكة أبنائهم أمام أعينهم وأنهم سيخرجون لتربية جيل جديد للجهاد.
وبغض النظر عن أن ما تقوله النسوة هو تصريح قد لا ينتمي بالضرورة لحرفية اللغة الرسمية للتنظيم، خصوصا بما يتعلق بالقول، إن الله أمرهم بالخروج من الباغوز، بل قيادتهم، فالمؤكد أن التنظيم أمر بالفعل المئات من عناصره وعائلاتهم بالخروج من مناطق القتال، وتسليم أنفسهم لقوات قسد، وأنجز لذلك مفاوضات مطولة لترتيب إقامتهم في معسكر الهول في الحسكة، وليس هذا بالأمر الجديد فقد سبق أن أنجز التنظيم مفاوضات للانسحاب من القلمون، وكذلك من الرقة ومنبج، وأيضا خرج مقاتلوه من تلعفر مستسلمين، قبل أن ينقض الأكراد الاتفاق، ويقتلوا معظم العناصر المستسلمة، وهو ما أشارت إليه منظمة العفو الدولية في أحد تقاريرها عندما عثرت على مقابر جماعية لجثثهم .لكن الموقعة الأبرز التي لم يستسلم فيها التنظيم ولم يقم بإخراج عائلاته، هي الموصل، فلمدة تسعة أشهر رفض مقاتلو التنظيم عقد أي صفقة للخروج الآمن، وحتى رفضوا إخراج أي عائلات من المدنيين المقيمين في الموصل، والأخطر هو أن التنظيم اتخذ قرارا بقتل المدنيين الخارجين من مناطق سيطرته في الموصل، وتم تنفيذ هذا القرار بالفعل، بحق كل الرجال الذين ضبطوا مع عائلاتهم خلال عمليات النزوح من المدينة، بينما أعيد النساء والأطفال .هذا الإجراء أثار حينها موجة انتقادات شديدة حتى داخل التنظيم، وجدلا شرعيا في كيفية تطبيق حكم القتل تعزيرا، وبعيدا عن تفاصيل هذه النقاشات، تستوقفنا هنا مقارنة محددة، فكيف يكون (أمر الله) أوالخليفة في الباغوز بخروج العائلات، بينما في الموصل يكون بمنع العائلات من الخروج بل قتلهم؟ كيف يمكن للتنظيم ان يؤمن غطاء شرعيا بقتل الخارجين من الموصل، وفي الوقت نفسه يمنح لنفسه إذنا شرعيا بإخراج العائلات والمقاتلين من الباغوز،، وقبلها من الرقة والقلمون واليرموك ومنبج، التي اشرف العدناني بنفسه على عملية خروج رتل المنسحبين، بعد ثلاثة اشهر من القتال العنيف .
ما يحصل ان التنظيم يورط نفسه دائما بمحاولة اشتقاق حكم شرعي من منظومة فقهية متكلسة ويسقطها على واقع سياسي وعسكري متغير، فيظهر بهذا المشهد المتناقض، وقد تكون له مبررات مقنعة لعناصره بإطالة المعركة في الموصل، واختلاف ظروفها عن الباغوز، لكنه يزج بأوامر الله والشريعة ليخرج حكمين متناقضين، فيحرج نفسه ويورط مرجعيته الشرعية، وهي بالمناسبة مشكلة أكبر وأعم من التنظيم، إذ أنها أزمة متعلقة بالمرجعية الفقهية التي يحاول التنظيم أن يتبناها، والتي كثيرا ما يظهر قصورها وتناقضاتها عند محاولة تطبيقها على أرض الواقع كما جرب التنظيم .
التنظيم يورط نفسه باشتقاق حكم شرعي من منظومة فقهية متكلسة ويسقطها على واقع سياسي وعسكري متغير
في الموصل، أراد التنظيم القتال لأطول وقت ممكن، محاولا إلحاق أكبر قدر من الخسائر بصفوف القوات الحكومية، لدفعها إلى إيقاف المعركة، وكانت الموصل تعني الكثير بالنسبة للتنظيم، كعاصمة حقيقية ومعقل هو الاهم للتنظيم، إذ انضم الآلاف من أبناء الموصل للقتال إلى جانب التنظيم في هذه المعركة الدامية، لذلك أراد التنظيم حث عناصره على القتال، وزجر أي محاولات للانسحاب، الامر الذي تكرر في كل المعارك والمدن، إذ يشدد قادة المعركة على القتال لآخر نفس، لكنهم وبعد أن يجدوا أن القتال لم يعد مجديا، وأن المعركة خاسرة بشكل مؤكد، سرعان ما ينسحبون للحفاظ على من تبقى من جنود وعائلات، من خلال طريق انسحاب يبقى مؤمنا لآخر لحظة، أو من خلال مفاوضات للانسحاب، حال حوصرت المدينة أو البلدة، الأمر الذي يسعد بلا شك القوة المهاجمة التي تريد السيطرة على ما تبقى من الأراضي، بدون دفع المزيد من التكاليف في أرواح جنودها، وهذا ما طبق في الفلوجة والحويجة ومنبج والرقة والقلمون ومخيم اليرموك، الذي دفع فيه النظام السوري ثمنا باهظا يفوق كل خسائره في معارك السيطرة على ريف دمشق ودرعا مجتمعة، لكن ما زاد الأمر تعقيدا في الموصل حينئذ، هو قطع طريق الإمداد الرئيسي الذي يصل الموصل بسوريا عبر تلعفر، ليصبح التنظيم محاصرا بالكامل داخل الجانب الأيمن للموصل، مجبرا على القتال لآخر جندي لديه، رغم ذلك تمكن الكثير من عناصر التنظيم من الهرب برفقة عائلاتهم خارج الموصل مخالفين أوامر قيادتهم .
ومع انحسار التنظيم كليا في سوريا والعراق نحو قرى ريف دير الزور، فإنه من المستبعد أن نسمع مجددا شعارات مثل «دولة الاسلام باقية» داخل المدن المركزية التي يرى الكثيرون من عناصر التنظيم أنهم دفعوا ثمنا باهظا من أجل المحافظة عليها، بدلا من محاولة الاحتماء بالأرياف النائية والفيافي الغائرة بالصحارى، بينما يجادل آخرون بأن تلك المواقع لا قيمة لها في خريطة العراق وسوريا إلا للاحتماء والكمون .
القدس العربي