يقدم الهجوم الدموي على مسجدين في مدينة «كرايست تشرش» في نيوزيلندا والذي أدى إلى وقوع عشرات القتلى والجرحى مجموعة من المفارقات الرمزية الكبيرة التي تحفل بها هذه الحقبة الزمنية العصيبة من تاريخ البشرية ككل، وليس فقط تاريخ الإسلام والمسلمين.
أول هذه المفارقات وقوع الاعتداء الإرهابي في نيوزيلندا، البلد القصي الذي يندر أن يسمع أحد بأخباره، والذي يلعب ابتعاده الجغرافي الهائل عن مراكز الأحداث الكبيرة في العالم دوراً في ندرة حضوره وضآلة تأثيره في قضايا العالم، وهو أمر يبدو معناه، أو القصد منه، هو أن لا مكان جغرافيا على الكرة الأرضية بمنأى عن الصراعات الكبرى.
ثاني هذه المفارقات، على ما يظهر، هو اختيار مدينة «كرايست تشرش»، والتي تعني «كنيسة المسيح»، للاعتداء، والمقصود منه طبعا، هو إعطاء طابع دينيّ للاعتداء، يضع حدا دمويا فاصلا بين المسيحيين والمسلمين، وهو أمر يعيدنا ببساطة إلى زمن قريب حين حدد أسامة بن لادن «فسطاطين» فاصلين بين الجماعتين، وأسس «قاعدة الجهاد ضد النصارى واليهود»، وإلى زمن بعيد حين تعرض العالم العربي ـ الإسلامي إلى الحملات الصليبية.
وفي هذه الحرب المفترضة بين «الشرق الإسلامي» و«الغرب المسيحي» (رغم أنهما يحملان رايتي دينين مشرقيين!)، لا يمكن أبدا أن نتجاهل المثال الكبير الذي تقدمه إسرائيل التي قررت الدخول في حمأة هذا الصراع بإعلان نفسها «دولة لليهود» وبتأكيد رئيس وزرائها أنها «ليست دولة لكل مواطنيها».
في هذه الحرب التي تستخدم فيها الأديان والعناصر الرمزية الكبيرة يقتل مواطنون نظراءهم على أسس دينية، وتستثني إسرائيل المسلمين والمسيحيين والدروز من بطاقة «الفي آي بي» التي يتمتع بها اليهود فحسب، وتصعد أشكال التطرف الديني الإسلاموي كـ»القاعدة» وتنظيم «الدولة»، والعرقيّ كأحزاب اليمين المتطرف الأوروبي، ويرتفع زعماء الشعبوية ونزعات الانفصال واقصاء الآخرين وتحضر ذكريات الحروب العالمية المدمرة.
في المقابل تغيب الأسباب الحقيقية للصراعات، وأهمّها طبعا أشكال الطغيان الوحشيّ لأنظمة الاستبداد، ونظام الاحتلال الإسرائيلي، ويصعد حلف كبير بين الاتجاهات اليمينية المتطرفة وهذه النظم، ولا غرو أن يدفع المسلمون الفاتورة الأكبر لهذه الاتجاهات، وذلك عبر دعم الغرب لأنظمة القتل والتوحش والاحتلال، وهو ما يساهم في إغلاق هذه الدائرة الدموية المستعصية، التي لا تخلف إلا الدمار لكل من يلعب فيها.
القدس العربي