هيأت هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) من جديد الظروف الملائمة لروسيا لإعلان حربها على إدلب (في شمال سورية)، وسلمت لها، عن سبق إرادة، الذرائع اللازمة لإنهاء اتفاقات التهدئة التي تعني ضمان حياة أكثر من ثلاثة ملايين سوري يعيشون في منطقة خفض التصعيد الرابعة، حسب اتفاقات بين شركاء أستانة الثلاثة، والتي أجلت المعركة سابقاً، لكنها لم تعمل، حسب الاتفاقات، على إزالة أسباب عودة التلويح بها، لتعود إلى الواجهة، تتصدّر عناوين حفلة الشواء التي تقيمها روسيا وإيران بلحم السوريين، وسط صمت الشريك الثالث “التركي” الذي يبدو كأن النار المشتعلة تحمل، بلهيبها، رسائل موجهة له من جهتين: الروسي الذي يعلن الحرب على منطقة نفوذ حليفه في مساري آستانة وسوتشي، والأميركي الذي يقف متفرجاً، وصامتاً أمام مجزرةٍ تستهدف السوريين أنفسهم الذين يعتقد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، حسب تغريدته في سبتمبر/ أيلول 2018، أنه حماهم من “خطأ إنساني فادح كانت سترتكبه كل من روسيا وإيران”.
وعلى ذلك، المعركة التي تعلن روسيا عنها في إدلب أنها بالتوافق مع تركيا تعني، في حقيقتها، وضع نقطة النهاية على الاتفاق السابق الذي يمنح تركيا إدلب بوصفها منطقة نفوذ، لتعود الدول الثلاث إلى طاولة تفاهماتٍ جديدة، لن تكون الولايات المتحدة الأميركيةً بعيدة عنها، أو أن ما تريده من الحرب المفترضة، والمسكوت عنها حتى الآن دولياً، ليس على جدول أولويات روسيا، اليد العليا في المفاوضات المقبلة، التي تتحرّك وفق معيار تحقيق مصالحها ضمن تنفيذ
“حفلة الشواء التي تقيمها روسيا وإيران بلحم السوريين تتصدر العناوين، وسط صمت الشريك الثالث “التركي”” أجندة أميركا الدولية في المنطقة، فهي تتولّى التفاهمات من جهة مع إسرائيل محور الاهتمام الأميركي في الحرب السورية، والتي تتضمن تقليص النفوذ الإيراني في سورية من ناحية. ومن جهة أخرى، إعادة تموضع الجانب التركي وفق خريطةٍ لا تتجاوز فيها تركيا حدودها الجغرافية مع ضمانات أمنها الإقليمي، أي إعادة ترتيب التحاصصات الدولية في سورية، فروسيا التي لم تتوان للحظة عن تأكيد رغبتها في استعادة سيطرة النظام على إدلب، وقد ضمنت ذلك في اتفاقات خفض التصعيد التي أعلنت منذ توقيعها على أنها مؤقتة، وفعلياً أعادت كل المناطق إلى نفوذ مؤسسات النظام التنفيذية، عبر عمليات مصالحة مناطقية، أو يمكن اعتبارها: استسلاما عسكريا من الفصائل المسلحة “المحسوبة على المعارضة” التي التزمت بتوقيع الاتفاق بداية، من دون العودة إلى المعارضة السياسية “المفترض أنها تمثل الكيان التفاوضي”، وبعد ضرباتٍ وحشيةٍ روسية، استهدفت مناطق التهدئة نفسها، سواء في ريف دمشق أو حوران (محافظة درعا)، حيث أعلنت تلك الفصائل الاستسلام بعد اتفاقاتٍ تضمنت مصالح شخصية لقادة المسلحين، وترحيل إجباري إلى إدلب لأهالي المناطق التي كانت تحت سيطرة الفصائل، والرافضين تسوياتٍ غير مضمونة دولياً، أي أنه لا جديد في سياسة روسيا في إدارة مناطق خفض التصعيد، ومنها منطقة إدلب، منطقة خفض التصعيد الرابعة (وقعت في 15 سبتمبر/ أيلول 2017)، وعادت كل من روسيا وتركيا إلى تدعيم الاتفاق بعد توتر الأوضاع ميدانياً، في اجتماع (17 سبتمبر/ أيلول 2018) ضم رئيسي البلدين في منتجع سوتشي لإنتاج ما سمي آنذاك “اتفاق إدلب” أو “اتفاق إنشاء منطقة منزوعة السلاح في إدلب” التي أعلنت روسيا بضرباتها انتهاء مفاعيلها واستعادت السيناريو المتبع لها في ذلك، حيث تستبق المفاوضات على تغيير تبعية المناطق بضرباتٍ جويةٍ حارقة، تساند فيها المليشيات البرية متعدّدة الجنسيات التي تقف إلى جانب النظام، من لبنانية وإيرانية وغيرها.
وعلى ذلك، تخرج إدلب اليوم بوصفها ورقة قوة من تركيا، بعد أن نفدت الفرص الزمنية المتاحة لها، وفي وقتٍ تقف فيه الولايات المتحدة متحفزةً ضد التصريحات التركية بشأن معركةٍ في شرق الفرات، ما استدعى تغيير المخطط الأميركي من انسحاب سريع وكامل من سورية
“استعجال المعركة التي كان يُفترض تأجيلها إلى ما بعد انتهاء الانتخابات البلدية في تركيا كان ضمن أجندة التوافق الروسي الأميركي والروسي الإسرائيلي” إلى انسحاب جزئي، وإعادة ترتيب المصالح مع روسيا، ضمن ما يمكن التكهن فيه بشأن نتائج الاجتماعات العسكرية التي جرت في فيينا (4 مارس/ آذار الجاري) بين رئيسي هيئتي الأركان في أميركا وروسيا، لتصبح ورقة مساومة روسية على مستويين، الأول ضمن محور ضامني آستانة، أي مع تركيا، التي يفترض أن تعيد الطرق الأساسية بين إدلب والعاصمة دمشق مروراً بالساحل إلى العمل تحت سيطرة النظام، وأن تسمح بدخول الجهات التنفيذية إلى كامل إدلب لإعلانها منطقة خالية من الإرهاب، وهو الأمر الذي لا تعارضه الإدارة الأميركية التي صرحت مندوبتها في الأمم المتحدة سابقاً، عبر تغريدة لها، بموافقتها على خوض معركة إدلب “شرط عدم استخدام السلاح الكيماوي”.
أما على المستوى الأميركي الإسرائيلي، فتمضي روسيا إلى آخر معاركها العسكرية بعد اللقاء الذي جمع بين الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ورئيس وزراء إسرائيل، بنيامين نتنياهو (فبراير/ شباط الماضي)، والذي خلص إلى اتفاقٍ بيني “يتضمن إخراج القوات الأجنبية من سورية، وتشكيل طاقم مشترك يعمل على تحقيق الهدف، بمشاركة جهات أخرى”، ما يعني استخدام إيران والمليشيات التابعة لها أدوات قتل للسوريين، قبل العمل على استبعادها من سورية، وفق الاتفاق مع نتنياهو، أي أن استعجال المعركة التي كان يُفترض تأجيلها إلى ما بعد انتهاء الانتخابات البلدية (نهاية مارس/ آذار) حسب الرغبة التركية، كان ضمن أجندة التوافق الروسي الأميركي (في فيينا)، والروسي الإسرائيلي (في موسكو).
ومن هنا، يمكن وضع التساؤلات بشأن حقيقة الجهة التي أرادت أن تحاصر تركيا في إدلب؟ ولماذا أرادت أن تسحب منها ورقة قوتها؟ وبذلك هل تسقط معها المعارضة التي قبلت بمسار آستانة بوصفه حلا انشقاقيا على مسار جنيف؟ ما يتيح من جديد العودة إلى الحديث عن اجتماعات جولات جديدة تمنح فيها الولايات المتحدة الأميركية، من جديد، روسيا حرية الحركة، ضمن حدود إنشاء نظام سوري جديد، يضمن انتهاء النظام السابق، شكلاً ومضموناً، من دون إعلان هزيمته أو موته حفظاً لماء وجه بوتين تحت مسمى الحل السياسي المشترك، الذي تبني من أجله موسكو اليوم مؤسساتٍ بديلةً وعميقةً تتولى عملية الانقلاب على النظام من داخله وبأدواته.