شهد العالم في الأيام القليلة الماضية حدثين مؤثّرين، الأول هو دخول القوات الكردية المدعومة من «التحالف الدولي» إلى بلدة الباغوز شرقيّ الفرات، والتي تمثّل الجيب الأخير لتنظيم «الدولة الإسلامية» في سوريا بعد هزيمته الكبيرة في العراق في عام 2017؛ والحدث الثاني تمثله العملية الإرهابية ضد مسجدين في نيوزيلندا.
تتحدّث الأنباء القادمة من سوريا عن نزوح قرابة 60 ألف شخص من الباغوز ومحيطها، وعن اكتشاف المقاتلين الداخلين للبلدة لمئات من جثث عناصر «الدولة» والمدنيين الذين حُصروا هناك وتلقّوا ضربات الطيران الأمريكي والقصف المدفعي والصاروخي من القوات البرية المهاجمة، ناهيك إلى الوفيّات الكثيرة التي حصلت وخصوصا بين الأطفال في مخيم «الهول» للنازحين، وهي أرقام تضاف لأرقام آلاف المدنيين الذين قتلوا منذ بدء حملة «التحالف» للقضاء على التنظيم والذين قدرتهم «الشبكة السورية لحقوق الإنسان» بثلاثة آلاف قتيل بينهم 924 طفلا و656 امرأة.
والحقيقة أن تأثير الكارثة التي شكّلها صعود وانهيار التنظيم يتجاوز أرقام القتلى والنازحين (وأغلبيتهم الساحقة هم من المسلمين الذين يدّعي التنظيم النطق باسمهم)، إلى خراب الحواضر والمدن والبلدان والمناطق التي سيطر عليها، والانهيار الاجتماعي ـ الاقتصادي الذي رافق كل ذلك، والعطب الخطير الذي أصاب صورة الإسلام والمسلمين في كل أنحاء العالم.
غير أن الضرر الأكبر الذي يمكن عزوه لهذه الظاهرة العسكرية ـ السياسيّة هو قطعها الطريق على الثورات العربيّة ومطالبها الكبرى بإسقاط الطغم الحاكمة في سوريا والعراق، وفتح المجال لدول حديثة تنهي الطغيان العسكري – الأمنيّ ذي الطابع الطائفيّ، المتوحّش ضد الناس والذليل للقوى الأجنبية.
ليس أمرا صعباً بالتأكيد كشف «حبل السرّة» الرابط بين هذا التنظيم (ونظائره) وبين تلك الأنظمة التي قمعت أي بديل مدني وديمقراطيّ لها، فيما أمدّت أجهزتها الأمنية (منذ ظهور أشكال الاحتجاج الأولى) تلك التنظيمات بأسباب الظهور، بدءاً من ترويج تفسير طائفي ومؤامراتي للمظاهرات الشعبية ضدها عبر ربطها بدعوات الإرهاب والسلفيّة، مروراً باغتيالها واعتقالها للمناضلين المدنيين وإطلاقها العناصر السلفيّة والمتطرفة من السجون، وصولاً للإشراف المخابراتي على تشكيل بعض تلك التنظيمات أو زرع عناصرها فيها ومدّها بأسباب الاستمرار، وصولا إلى الهدف الاستراتيجي وهو بناء معادلة داخلية وخارجية قوامها: إما الأنظمة الطغيانية المتوحشة أو تنظيمات كـ»الدولة» و«القاعدة».
تقدّم عملية نيوزيلندا والتي قادها عنصريّ أبيض معاد للمسلمين، صورة مقابلة تتكامل مع سرديّة الأنظمة التي تربط «الاستقرار» بالدكتاتورية وتعتبر الاحتجاجات الشعبيّة إرهابا وعمالة للأجنبيّ، فالتيارات العنصريّة التي تنادي بتفوّق البيض وتعادي المهاجرين والأقليات والمسلمين تجد حلفاء طبيعيين في أمثال بشار الأسد وعبد الفتاح السيسي وفلاديمير بوتين، وكانت زيارات نواب أحزاب اليمين المتطرّف تتقاطر خلال السنوات الماضية على دمشق مكافأة للنظام على استخدامه الأسلحة الكيميائية والبراميل المتفجرة ضد «الإرهابيين المسلمين»، أو على القاهرة، التي زارتها زعيمة اليمين المتطرّف الفرنسي مارين لوبين وأثنت خلالها على أداء الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
تتمظهر قضية الإرهاب في الباغوز ومدينة «كرايست تشيرش» بطريقتين مختلفتين وفي بقعتين جغرافيتين بعيدتين جدا لكنّ عناصر اللقاء كثيرة وهي يفترض أن تكشف العلاقات الوثيقة بين منتجات الاستبداد العربيّ، ومنها تنظيم «الدولة»، واتجاهات التطرّف العنصريّ العالميّة، ومن دون هذا الكشف فإن البوصلة ستضيع بالتأكيد وستستمر الطاحونة الدموية بالاشتغال.
القدس العربي