كأن البريطانيين اكتشفوا أن الخروج من الاتحاد الأوروبي (البريكست)، الذي صوتوا عليه بنسبة 51.9% في استفتاء أجري أواخر يونيو/حزيران 2016، ليس بالسهولة التي كان يتصورها من دعوا إلى ترك البيت الأوروبي وزينوا ذلك للناخبين، وربما لو استقبل مواطنو المملكة المتحدة من أمرهم ما استدبروا لكان لهم رأي آخر غير ذلك الذي عبرت عنه أغلبيتهم قبل نحو ثلاث سنوات.
مؤشرات كثيرة تؤكد هذه الخلاصة، ليس أقلها أن حكومة تيريزا ماي دخلت في دوامة لا تعرف سبيلا للخروج منها، بعد أن رفض مجلس العموم مرتين مقترح اتفاق عقدته ماي مع الاتحاد لإعلان “الطلاق” مع لندن.
مظاهرات وعريضة
كما أن مئات الآلاف من البريطانيين احتشدوا السبت في وسط العاصمة لندن معارضين اتفاق البريكست ومطالبين باستفتاء جديد يعيد النظر في نتائج الاستفتاء السابق، ناهيك عن أن عدد الموقعين على عريضة تطالب الحكومة البريطانية بالتراجع عن عملية الخروج من الاتحاد الأوروبي بلغ أكثر من 4.5 ملايين السبت.
وقالت لجنة العرائض في البرلمان البريطاني في تغريدة على تويتر إن معدل التوقيعات هو “أعلى معدل شهده الموقع في تاريخه”، وقد أدى هذا العدد الهائل من التوقيعات إلى انهيار موقع العرائض (التابع للحكومة والبرلمان في بريطانيا) بشكل مفاجئ.
ومن جهة أخرى أظهر استطلاع للرأي أجرته قبل أيام مؤسسة “يو غوف” للدراسات أن 90% من البريطانيين أعربوا عن رغبتهم بالتفكير في خيارات أخرى، بما فيها التوجه إلى انتخابات مبكرة أو إجراء استفتاء آخر، بدل اتفاق ماي للخروج من الاتحاد الأوروبي.
وأضاف الاستطلاع أن 52% من الشعب البريطاني يدعمون تأجيل الخروج من الاتحاد الأوروبي، وأن 56% عبروا عن دعمهم لإيجاد حل لمسألة البريكست عن طريق استفتاء جديد.
ومنذ شهور قال الخبير في السياسة الأوروبية كونستانتين فرايزر من مركز “تي أس لومبارد” في تصريح لوكالة الصحافة الفرنسية إن استفتاء ثانيا بشأن البريكست “سيصبح خيارا جديا”، وإن هناك “دينامية متنامية” في هذا الاتجاه، مؤكدا أن هذا الاحتمال “يكتسب زخما”.
فعجز الحكومة عن التوصل إلى توافق مع مجلس العموم “يمدد حالة الشك، وسيكون له ثمن سياسي واقتصادي” كما أكد ذلك في تصريحات صحفية كبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي ميشال بارنييه.
خسائر اقتصادية
هذا الثمن الاقتصادي بدأت بريطانيا في دفعه منذ الشهور الأولى التي أعقبت استفتاء يونيو/حزيران 2016، فقد تحدثت تقارير عن تراجع في سوق العقارات ببعض المدن البريطانية بنسبة 25%، كما انخفضت قيمة الجنيه الإسترليني، وسجل النمو الاقتصادي في البلاد تراجعا عن مستوى التوقعات التي كان يراها المختصون.
وفي وقت سابق كشف تحقيق لصحيفة “تايمز” البريطانية أن نحو ثلث مليارديرات بريطانيا انتقلوا بالفعل، أو هم بصدد الانتقال، إلى ملاذات ضريبية، وأكدت أن السجلات العامة تبين أن 28 من بين 93 مليارديرا بريطانيا “انتقلوا إلى ملاذات آمنة أو يقومون حاليا بالانتقال”.
وقالت وكالة “موديز” للتصنيف الائتماني في وقت سابق إن تصويت البريطانيين لصالح البريكست أثر سلبا في التصنيف الائتماني السيادي لبريطانيا وتصنيفات المصدرين الآخرين لأدوات الدين في البلاد، معتبرة أن نتيجة التصويت “تحمل في طياتها فترة طويلة من الضبابية بشأن السياسات ستفرض ضغوطا على الأداء الاقتصادي والمالي” للبلاد.
وأضافت أن “زيادة الضبابية ستقلص تدفق الاستثمارات والثقة على الأرجح بما يضغط على آفاق النمو في المملكة المتحدة وهو ما يؤثر سلبا في التصنيف الائتماني للديون السيادية و(ديون) المصدرين الآخرين للسندات في المملكة المتحدة”.
وفي السياق ذاته أعلنت الوكالة الهولندية للاستثمارات الخارجية انتقال 42 شركة من بريطانيا إلى هولندا بسبب غموض بريكست، كما ذكرت صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية أن شركات الخدمات المالية البريطانية نقلت نحو تريليون جنيه إسترليني من الأصول المالية إلى دول أوروبية أخرى.
وأضافت الصحيفة في تقرير أن قطاع الخدمات المالية في بريطانيا يجري حاليا خطط الطوارئ الأسوأ في تاريخه. كما ذكرت تقارير إعلامية أخرى أن ثلاثة أرباع البنوك العالمية أعلنت إجراءات نقل كبيرة لعملياتها من بريطانيا، حتى أصبحت مدينة فرانكفورت الألمانية الوجهة الأكثر رواجا للعمليات المالية في أوروبا.
دراسة أخرى أجرتها مؤسسة برتلسمان الألمانية كشفت أنه إذا حدث خروج غير منظم لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي أي دون إبرام اتفاق، فإن بريطانيا ستتكبد خسائر في الدخل بقيمة 57 مليار يورو سنويا، أي نحو 875 يورو لكل بريطاني.
عدم اليقين
البنك المركزي البريطاني حذر هو الآخر من أن استمرار حالة عدم اليقين بشأن الخروج من الاتحاد الأوروبي يؤثر في الاقتصاد البريطاني ويقوض ثقة الشركات، وقال إن ذلك يتسبب في تقلبات في أسعار الأصول في المملكة المتحدة، وخاصة سعر صرف الجنيه الإسترليني.
وأكد أن زيادة الغموض بشأن خروج بريطانيا دون اتفاق “يمكن أن يكون له تأثير كبير على إنفاق الشركات”، وأن عدم وضوح موعد محدد للخروج يؤثر بالفعل في “النشاطات الاقتصادية على المدى القصير خاصة استثمارات الأعمال”.
كما أفادت دراسة لبنوك أوروبية بأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يمكن أن يكلف اقتصادها خسارة 100 مليار جنيه إسترليني وأن يدمر نحو مليون وظيفة.
“فاتورة الطلاق” أيضا تفرض على بريطانيا تلبية جميع الالتزامات المالية المترتبة عن عضويتها في الاتحاد. وتقدر الحكومة البريطانية بأن تلك الالتزامات تتراوح بين 35 و39 مليار جنيه إسترليني، كما يتحتم على لندن المشاركة في المخططات المالية السنوية للاتحاد إلى نهاية 2020.
وتدفع بريطانيا سنويا ما يعادل 47 مليار دولار تكاليف عضويتها في الاتحاد، لكن مقابل ذلك ترتبط بعلاقات اقتصادية عميقة الجذور مع أوروبا التي توصف بأنها أكبر سوق في العالم.
ويبلغ حجم الاستثمارات الأوروبية في بريطانيا نحو 700 مليار دولار، في حين تشير الأرقام إلى أن حجم اقتصاد بريطانيا يمثل سدس الاقتصادات الأوروبية مجتمعة، وأن 47% من صادرات بريطانيا موجهة للاتحاد الأوروبي الذي يضم نصف مليار مستهلك، بينما تستقبل لندن منه 53% من وارداتها، ويرتبط بهذه الأرقام من التجارة الخارجية، نحو ثلاثة ملايين وظيفة بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
فاتورة سياسية
أما الفاتورة السياسية للبريكست فلا تخطئها العين في بريطانيا، فإضافة إلى التوتر وعدم الاستقرار في علاقة المملكة المتحدة مع الاتحاد الأوروبي وما يمكن أن يكون لذلك من انعكاسات في سياستها الخارجية، فإن الساحة الداخلية لا تخلو من توتر مماثل يعكسه الشد والجذب بين الحكومة ومجلس العموم الذي رفض مرتين مقترح الحكومة لاتفاق البريكست، ورفض التصويت عليه في المرة الثالثة.
وغير خاف كذلك أن البريكست وتداعياته جعلا حكومة تيريزا ماي تمشي على طبقة هشة من الجليد توشك أن تتهشم بها عند أقرب هزة تعترضها في الطريق.
المخاض العسير الذي تعيشه بريطانيا في معركة خروجها من الاتحاد الأوروبي يذكر بالولادة المتعسرة أيضا لدخولها فيه، فقد حاولت الانضمام سنة 1963 إلى تكتل كان يعرف آنذاك بـ”المجتمعات الأوروبية”، وبسبب اعتراض الرئيس الفرنسي آنذاك شارل دوغول، بقيت الموافقة على هذا الطلب معلقة إلى أن تنازل دوغول عن الرئاسة عام 1967، ورغم ذلك لم يتم الانضمام الفعلي إلى التكتل الأوروبي إلا عام 1972.
وبين المخاضين عاشت بريطانيا أيضا مخاضا آخر في منتصف التسعينيات من القرن الماضي حيث تعالت أصوات المناهضين للانتماء إلى الاتحاد الأوروبي وتأسس ما عرف بحزب الاستفتاء سنة 1994، وبعده حزب الاستقلال البريطاني، الذي كان أحد الأطراف الرئيسية التي دفعت بالبلاد إلى البريكست الحالي.
المصدر : وكالات