قيل أيام من قصف مخيم الباغوز شرقي سوريا آخر جيب لتنظيم الدولة الإسلامية في البلاد على يد قوات التحالف الدولي وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، كانت عشرات العائلات تغادر المخيم إلى الممرات التي وفرتها قوات “قسد” من أجل خروجهم بما فيها ممرات لعناصر التنظيم، تنفيذا لاتفاق بين التحالف وقسد وبين التنظيم. ومع اعتقاد قسد أن التنظيم استسلم بشكل كامل، بدأت بالإجراءات التي تسبق عملية النصر النهائي.
يروي أحمد (23 عاما) -وهو من مقاتلي قوات قسد التي شاركت في العمليات الأخيرة ضد التنظيم- اللحظات الأخيرة التي سبقت “المحرقة” التي تعرض لها مخيم الباغوز بمن فيه، حيث كان شاهدا على حجم الدمار والقصف.
يقول للجزيرة نت: طلبت منا حينها قيادة الفوج أن نتراجع وسيتم تبديل القوات التي شاركت في عملية اقتحام معاقل التنظيم الأخيرة (العربية) بقوات أخرى من مكافحة الإرهاب والمخابرات التابعة أيضا لقسد، من أجل تنفيذ الاتفاق وإكمال عملية التفتيش ونقل المقاتلين التابعين للتنظيم.
وبالفعل تم إبعاد معظم العناصر العربية المنضوية ضمن قسد، واستبدلوا بقوات كردية مما تسمى قوات مكافحة الإرهاب، ولم تمض ساعات حتى تعطّل الاتفاق.
فالتنظيم كان يعتقد أنه سيحصل على ممر آمن إلى البادية السورية أو العراقية إذا ما أطلق سراح المعتقلين، إلا أن طلبه رُفض من التحالف وقسد، وحينها بدأت المعركة التي أدت إلى مسح الباغوز بشكل كامل هي ومخيمها.
وكان تنظيم الدولة قد استعد منذ بداية الاتفاق لمثل هذه اللحظة، حيث نفذ هجوما خلف خطوط قوات قسد والقوات الأميركية والفرنسية المشاركة في عمليات الاقتحام والتمشيط، وتمكن من قتل أكثر من 35 عنصرا من قوات النخبة التابعة لقسد، وإصابة ومقتل عدد من قوات التحالف.
أوامر القصف
تلا ذلك إعطاء الأوامر بقصف المخيم عبر طائرات التحالف، لتتناوب عدة طائرات على القصف بالقنابل الشديدة الانفجار والقنابل الفوسفورية، وما هي إلا ساعات حتى توقفت أصوات الرصاص والقصف وحل صمت كامل على المكان.
يكمل أحمد: عبر القبضات اللاسلكية يأتي صوت باللغة العربية “ممنوع الدخول إلى المخيم إلا للقوات التي سُمح لها ومهمتها التمشيط”.. حينها كان قد حل الفجر، دخلنا ومجموعة من المقاتلين إلى المخيم.. جثث متناثرة هنا وهناك لأطفال ونساء، جرحى يسمع أنينهم بشكل واضح كل ما تلفتّ يمينا أو يسارا، سيارات محترقة، حفر صغيرة كانت للاختباء أصبحت قبورا.
المشهد لا يمكن وصفه إلا بمحرقة مثل التي كنا نشاهد عن الحرب العالمية عبر التلفاز، وعلى الفور بدأت عربات التحالف وقوات قسد الخاصة بإغلاق المكان أمام الصحفيين وأمام المقاتلين، وبدأت بالبحث عن المصابين ونقلهم إلى أماكن أخرى، وكذلك نقل الجثث التي تعدت 350 جثة وغالبيتها لعائلات لا يعرف هل هم من المحتجزين أم من عوائل التنظيم.
على مقربة من المخيم يقف رجل من ناحية هيجن بريف ديرالزور الشرقي ينتظر بلهفة أن يسمع خبر الخلاص من تنظيم الدولة، ليتمكن هو وعائلته من رؤية ابنتهم التي لم تخرج مع موجات الخارجين من مناطق التنظيم سابقا.
يسأل هذا الرجل المقاتلين “هل من ناجين؟ هل رأيتم ابنتي؟ هل رأيتم أطفالها؟”.. لم يسمح له بالوصول إلى المخيم، وأخبروه بأن يتوجه إلى المشافي القريبة ربما يجدهم هناك، لأن القصف كان عشوائيا، أو لينتظر حتى يتم تمشيط المنطقة.
نحن مدنيون
في ظهيرة ذات اليوم، استنفرت القوات التي تمشط المخيم والبلدة عدة عائلات ظهرت فجأة من بين الجثث والدمار، رافعة أياديها وصوتها يُسمع من مسافة “نحن مدنيون”. وفور وصول أفرادها تم تفتيشهم، ليتبين أنهم كانوا مختبئين في أحد الأنفاق أثناء القصف ونجوا من الموت، بعضهم عائلات لمقاتلي التنظيم، فتم نقلهم فورا لنقاط التفتيش والتحقيق، ليتم وضعهم في المخيمات المخصصة لهم.
تقول مصادر ميدانية للجزيرة نت إنه رغم مرور سبعة أيام لا تزال القوات الأميركية تفرض طوقا على المنطقة وتمنع دخول الصحفيين إليها، بعد أن جلبت أجهزة إلكترونية وأدوات تنقيب يعتقد أنها من أجل البحث عن أموال التنظيم من الذهب والمعادن الأخرى، بعدما تبين أن التنظيم لم يسلم إلا جزءا بسيطا منها سابقا.
وتؤكد المصادر أن المخيم والبلدة سُوّيت بهما الأرض بشكل كامل، ولم يتبق فيها إلا حطام المنازل والعربات وأكوام الخيم، وتمت حراثته -إن صح التعبير- بالقنابل والمتفجرات، ومسحت معه الكثير من التفاصيل والمعلومات والخفايا، أبرزها مصير قادة الصف الأول ومصير آلاف المخطوفين من العراق وسوريا.
وبعدما فقد الأمل بإيجاد شقيقه الذي خطفه التنظيم قبل عامين بحجة انتمائه إلى الجيش الحر وكان هدفه من الالتحاق بقوات قسد البحث عنه، يصف أحمد المشهد قائلا “كان المخيم وبلدة الباغوز غنيمة قيمة وكبيرة للتحالف وقسد، فبعدما أخذوا منه الذهب والمقاتلين الأجانب وقادة التنظيم الذين سلموا أنفسهم بدون معارك، قاموا بحرقه بشكل كامل، وتدمير كل الجزئيات التي قد تساعد على إيجاد أثر للمخطوفين أو حقائق كثيرة بات من الصعب معرفتها بعد الآن”.
طويت الصفحة الأخيرة من تنظيم الدولة الإسلامية بمشاركة عسكرية لأكثر من 70 دولة وآلاف المقاتلين، وطويت معه حقائق وأسرار كثيرة، لكن أبرزها: ما الخطوة القادمة له في المنطقة بعد هروب معظم قادته وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي؟
المصدر : الجزيرة