فوجئت الأوساط الإخبارية نهاية فبراير الماضي بنبأ تقديم وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف استقالته عبر تغريدة على موقع التواصل الاجتماعي «انستغرام». خلقت هذه الاستقالة التي ما لبث ظريف أن تراجع عنها ردود أفعال كثيرة لدى المتابعين للشأن الإيراني، خاصة ملف طهران النووي، فظريف يعتبر من أكبر المتحمسين للاتفاق النووي، الذي ساهم في رعايته ورسم خطوطه، كما تعتبر القناة التي شقها للتعاون والتحاور مع الأمريكيين فريدة من نوعها، منذ اندلاع الثورة الإيرانية، حيث بلغت التفاهمات في الحقبة التي تزامن فيها وجوده مع وجود وزير الخارجية الأمريكي جون كيري مرحلة إيجابية غير مسبوقة.
الاستقالة غير الرسمية، وإلى حد كبير غير الجادة، حققت غرضها في تبيان المكانة التي يحظى بها ظريف داخلياً وخارجياً، كشخصية إيرانية مقبولة. ظريف الذي يتميز بوجه باسم في أحلك الظروف وبلغة إنكليزية رفيعة، وثبات انفعالي نادر، كان يعد خاصة لدى النظراء الأوروبيين، شخصية يصعب إيجاد مثيلها. أوضح حدث الاستقالة التي تم العدول عنها بعد ساعات معدودة حجم التباينات داخل بنية النظام الإيراني، الذي يبدو في ظاهره متماسكاً وصلباً.
أعاد هذا الحدث إلى الواجهة مرة أخرى أحاديث التنازع داخل إيران، بين جناح الانفتاح الذي يقوده الرئيس روحاني، وجناح التشدد الذي يتزعمه المرشد مسنوداً من قبل تيار المحافظين، إضافة إلى قيادات الحرس الثوري الذين كانوا يشككون منذ البداية في جدوى سياسة الانفتاح ويحذرون مما يمكن أن تقود إليه من استسلام وتراجع لمكانة إيران الدولية، ثم لمكانة الحرس الثوري داخل الجمهورية.
بالنسبة للمتشددين فإن إيران لم تحقق الفوائد الاقتصادية المرجوة من هذا الاتفاق. هنا سوف يتم تحميل وزير الخارجية المتحمس، وزر فشل الصفقة النووية التي كان ينتظر أن تساعد في تخطي الأزمة الاقتصادية التي زادت وطأتها في السنين الأخيرة، ما دفع الآلاف من المواطنين للخروج في عدة تظاهرات واحتجاجات.
من جهته نفى جواد ظريف في لقاء أجرته معه قناة «بي بي سي» بعد عدوله عن الاستقالة وعودته لمهام عمله مرافقاً الرئيس روحاني في زيارته المهمة إلى بغداد، وجود أي انقسامات أو أجنحة متصارعة داخل النظام، معتبراً أن تشارك عدة جهات في صنع السياسة الخارجية لبلد ما هو أمر عادي. في الواقع فإن الحديث عن الأجنحة معقد أكثر مما يبدو في ظاهره، كما أن الحديث حول هذا الموضوع لا يخلو من مبالغة دعائية، فيكفي أن تعلم أن خامنئي مرشد الجمهورية وزعيمها الروحي، كان الداعم الأول لبقاء ظريف في موقعه، كما أن من المستبعد أن يكون بقاء وزير الخارجية لكل هذه الفترة قد تم بغير رضا الزعيم، الذي يمسك بيده مفاصل الحراك السياسي والاقتصادي والأمني في البلاد.
إذا استثنينا بعض المنافسين من صقور السياسة ورجالات الحرس الثوري، فإنه يمكن القول إن هناك اتفاقا على مهارة ظريف التفاوضية وقدراته الدبلوماسية، كما أن هناك شبه إجماع على كونه الشخص المناسب الذي يصلح للتقديم كوجه مغاير لوجه إيران المتشددة. هذا هو ربما ما حدا بشخصيات مؤثرة مثل قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، لإعلان دعمها له، أما الرئيس روحاني فقد رفض استقالة وزير خارجيته الأخيرة، كما رفض ما قبلها من استقالات سابقة، كيف لا والرجل هو رأس الرمح في استراتيجية «الانخراط البناء» التي وضعها وبشّر بها.
لكن متابعة التطبيع مع الغرب، والحفاظ على الاتفاق النووي ومكتسباته يحتاجان إلى ما هو أكثر من الجهد والمهارة الدبلوماسية، فتدخلات إيران العسكرية، خاصة في سوريا، ومتابعتها تجاربها الصاروخية التي تخترق الاتفاق وتنقضه، كل هذا لا يجعل مهمة ظريف سهلة، خاصة حين توجه اتهامات لإيران بين الحين والآخر بالتنسيق لعمليات أمنية في الخارج، يستهدف بها تصفية معارضين، كالاتهام الذي وجهته الحكومة الهولندية بداية عام 2019 لإيران بشأن تأجير عصابات إجرامية للتخلص من اثنين من المعارضين المقيمين على أراضيها.
هناك اتفاق على مهارة ظريف التفاوضية وقدراته الدبلوماسية وتقديمه وجها مغايرا لوجه إيران المتشددة
هناك من جهة أخرى حاجز الحرس الثوري، المنظمة التي تصنف إرهابية من قبل عدد من دول العالم، والتي تسيطر في الوقت ذاته على مفاصل الاقتصاد الإيراني. إن مساعي تفكيك هذه المؤسسة المتجذرة أو تحييدها، تبقى بلا جدوى في ظل ما تلقاه من دعم من قبل القيادة الروحية، بل إن مجرد محاولة إقناع قيادة الحرس بالاستجابة لاشتراطات مجموعة العمل المالي (FATF) المعنية بمراقبة عمليات غسيل الأموال، وتمويل الإرهاب، يبدو أمراً مستعصياً، رغم أنه من البديهي أن البلاد لن تستطيع تحقيق أي تقدم في محاولاتها للدخول في إطار التجارة العالمية، بدون هذه الاستجابة. حتى اليوم يرفض ما يطلق عليه داخل إيران اسم «مجلس تشخيص مصلحة النظام» التعاطي مع هذه المجموعة بحجة تعارضها مع المبادئ الإسلامية ومفاهيم «الاقتصاد المقاوم».
قد يكون الاقتصاد هو الأولوية للجمهورية الإيرانية حالياً، لكن تحقيق نمو اقتصادي مرتبط بانخراط بناء وحقيقي مع دول العالم المؤثرة، وبالتحديد الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، هو ما يمر من ناحية بإيجاد تغييرات بنوية في هيكل الاقتصاد الإيراني، ومن ناحية أخرى بتحقيق تقدم في المسألة النووية.
الخلاصة، بحسب تيار روحاني – ظريف، تكمن في أن الانفتاح ليس خياراً، بل أولوية لا يمكن بدونها إحراز أي تقدم أو الحصول على أي علم أو تكنولوجيا، ولأن ما لا تتحقق الأولويات إلا به يصبح هو الآخر أولوية، فإنه سيكون على تيار الانفتاح أن ينجز ثلاث مهمات، تبدو حتى الآن شديدة الصعوبة، هذا إن تفاءلنا ولم نعتبر أنها مستحيلة. هذه المهمات هي: أولاً: أن يحمل نظام الولي الفقيه على الاستجابة للمبادرات الخاصة بمحاربة الإرهاب وغسيل الأموال من أجل إثبات حسن النية، خاصة وقد منحت البلاد فترة أربعة أشهر إضافية، ابتداءً من فبراير الماضي لتحقيق ذلك. ثانياً: أن يحجّم تدخلات المتشددين وعلى رأسهم الحرس الثوري في ملفات الشؤون الخارجية والأمن والاقتصاد، خاصة ما يرتبط بالعلاقة مع دول الجوار، وهو أمر لا توجد مؤشرات على قرب تحقيقه، في ظل تضاعف ميزانية الحرس والمؤسسات الأمنية التابعة له في عهد الرئيس «المعتدل» الحالي. ثالثاً: يتوجب على هذه المجموعة المعتدلة إنجاح الاتفاق النووي، وهو الأمر الأصعب، ببساطة لأن هذه المجموعة، أو أي مجموعة أخرى داخل إيران، مهما بدت مؤثرة، لا تملك وحدها القول الفصل فيه، وإنما هناك الطرف الآخر للمعادلة: الشركاء.
لا شك في أن محمد جواد ظريف كان يدرك بحنكته الدبلوماسية وخبرته التفاوضية صعوبة مهمته، التي يبقى فيها كرأس رمح. قد يكون هذا هو أحد الأسباب التي تدفعه من حين لآخر للتفكير في الخروج من الملعب وتسليم الكرة لغيره.
القدس العربي