مع كل انتخابات تركية، يعود إلى السطح موضوع اللاجئين السوريين، الذين هربوا من الحرب في بلادهم ووصل منهم العدد الأكبر إلى تركيا، نظراً لاشتراكها بحدود جغرافية طويلة مع سورية تصل لأكثر من 900 كيلومتر، فلجأ إليها قرابة 4 ملايين سوري، وجدوا فيها مكاناً آمناً. لكن هذا التواجد، الذي بدا طبيعياً نظراً لقرب المجتمعين، ولتواجد صلة قرابة بين العوائل خصوصاً في المناطق الحدودية، تحوّل مع مرور الوقت إلى ورقة سياسية بيد مختلف الأطراف في تركيا.
اليوم، ومع اقتراب الانتخابات المحلية المقررة في 31 مارس/آذار الحالي، يعود ملف الوجود السوري ورقة انتخابية في يد الأحزاب المختلفة. وعمدت أطراف في المعارضة إلى التركيز في خطاباتها على موضوع ترحيل السوريين في حال الفوز في الانتخابات، كما حصل في الانتخابات الرئاسية السابقة في يونيو/حزيران الماضي، حين أعلن مرشحو المعارضة، وعلى رأسهم مرشح حزب “الشعب الجمهوري” العلماني الكمالي، محرم إنجه، أنه سيعيد السوريين لبلادهم في حال فوزه بالرئاسة، وكذلك فعلت زعيمة الحزب “الجيد” القومي اليميني المتطرف، ميرال أكشنر. هذه النبرة تتواصل في حملة انتخابات الإدارة المحلية، التي تجري الأحد المقبل، على لسان مرشحي المعارضة، خصوصاً من الأحزاب القومية المعارضة. وتجسدت في نبرة عدائية من قبل مرشحة الحزب “الجيد” لبلدية الفاتح التي تقع في قلب إسطنبول، إيلاي أكسوي، وهي منطقة يقطنها السوريون إلى حد كبير، وتشكّل أسواقها مقصداً للسوريين والعرب. ونشرت أكسوي لافتة إعلانية قالت فيها إنها لن تسمح بتسليم منطقة الفاتح للسوريين. وبعد أيام نشرت فيديو من قلب الأسواق، وبنبرة عنصرية، انتقدت فيه انتشار لوحات المتاجر والدكاكين باللغة العربية، والتي يمتلكها السوريون، قائلة إن هذه الكتابات العربية على المنتجات الغذائية لا يُفهم منها المواد المكونة لها، ما يسبّب ضرراً بالمجتمع التركي لجهله بماهية المواد المكونة لكتابتها بالعربية، ويجب استئصال ذلك. وواصلت خطابها العنصري ضد السوريين في تجمعاتها، وكذلك الأمر حصل مع مرشحين آخرين من المعارضة.
”
نشرت أكسوي لافتة إعلانية قالت فيها إنها لن تسمح بتسليم منطقة الفاتح للسوريين
”
وتستغل أطراف المعارضة الأعباء الاقتصادية التي عانت منها تركيا أخيراً بسبب التضخّم وانهيار العملة، وغلاء الأسعار، معتبرة أن تواجد السوريين أوجد ضغطاً على سوق العمل من جهة، وساهم في زيادة الإنفاق الحكومي عليهم، فضلاً عن أن العمليات العسكرية داخل سورية، وهي تشمل عمليتي “غصن الزيتون” و”درع الفرات”، أدت كلها إلى هذه المشاكل الاقتصادية، وبالتالي أحدثت شرخاً في المجتمع، خصوصاً أن المجتمع التركي توجد فيه شريحة لا تؤمن بأن الدعم المالي للسوريين المحتاجين هو دعم أوروبي أو من مساعدات خارجية، بل من خزينة الدولة.
من جهته، فإن حزب “العدالة والتنمية” الحاكم، وفي الوقت الذي يقدّم فيه أرقاماً تُظهر دعمه للسوريين، يحاول استعراض عضلاته من الناحية الأخلاقية والإنسانية، موجّهاً التهمة دوماً للمجتمع الدولي بالتخلي عن السوريين، وترك تركيا وحيدة لتواجه المأساة السورية الإنسانية. لكن نتيجة خطاب المعارضة، والاحتقان الذي يرافق الانتخابات، وتحالفه مع حزب “الحركة القومية” اليميني المتطرف، فإنه يحاول إرضاء القوميين من حلفائه والناخبين، بتأكيده أن العمليات التي قامت بها الحكومة التركية في سورية، هي لتحقيق السلم والاستقرار في البلاد، تمهيداً لإعادة اللاجئين إلى سورية. كما أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وكبار قادة الحزب، أكثر من مرة، أن عملية “غصن الزيتون” في منطقة عفرين أدت لعودة طوعية لنحو 350 ألف سوري، وأن تركيا منخرطة مع الأطراف المعنية لإيجاد حل سياسي في البلاد، يمهد لعودة كل السوريين إلى بلادهم. وآخر التصريحات المرتبطة بحزب “العدالة والتنمية” كانت من قبل مرشح بلدية إسطنبول الكبرى بن علي يلدريم، ذراع أردوغان اليمنى في السنوات السابقة، ورئيس البرلمان السابق، الذي تعهّد، أخيراً، وفق ما نقلت صحيفة “حرييت”، بالطرد الفوري لأي سوري لا يلتزم بالقوانين التركية، خصوصاً من إسطنبول التي يتواجد فيها قرابة 700 ألف سوري، بحسب يلدريم، مشدداً على أن السوريين، وعلى الرغم من عمليات التجنيس التي بلغت بضع عشرات الآلاف، فإن البقية يتمتعون بصفة الحماية المؤقتة، وكلمة المؤقتة تعني عودتهم إلى بلادهم بعد الاستقرار، وهو ما تعمل أنقرة عليه.
”
تعهد يلدريم بالطرد الفوري لأي سوري لا يلتزم بالقوانين التركية
”
وكانت الحكومة التركية، التي يقودها حزب “العدالة والتنمية”، قدّمت تسهيلات عديدة للاجئين السوريين، بعد منحهم صفة الحماية المؤقتة، من خدمات التعليم والصحة والعمل والاستثمار. وفي السنوات الأخيرة بدأت عمليات تجنيس واسعة. وعلى الرغم من ذلك اشتكى كثير من السوريين من بيروقراطية المعاملات، وقيود في التنقلات والسفر. ورافقت ذلك أحداث بين السوريين والأتراك في عدة ولايات، مثل غازي عنتاب وأورفة ومرسين وإسطنبول أخيراً، فضلاً عن جرائم أخرى تعرّض لها السوريون نتيجة توظيف ملف اللاجئين في السياسة الداخلية التركية، كما حصل في جريمة قتل امرأة حامل في ولاية سكاريا قبل أكثر من عام. وأمام حالة التجاذب القائمة حالياً، فإن المجتمع التركي يقع ضحية السجالات السياسية بين الأطراف المتصارعة. فأنصار المعارضة يتبنّون طروحاتها، فيما مناصرو الحزب الحاكم يقتنعون بطروحات حزبهم. لكن تعلُم شريحة واسعة من السوريين للغة التركية، سهّل من عملية التواصل مع الأتراك والاندماج معهم، على عكس السنوات السابقة التي كانت تُشكّل فيها اللغة حاجزاً أمام التواصل. ولا تزال أطياف واسعة من الأتراك تؤمن بأن السوريين تعرضوا للظلم والقتل وهربوا من البراميل المتفجرة، وعليه لا يزال على الأتراك احتضانهم إلى حين استقرار الأوضاع مجدداً في سورية، في وقت تؤدي فيه منظمات مجتمع مدني دوراً كبيراً بتذكير الأتراك بالمعاملة العنصرية التي لقوها في ألمانيا، محذرين من انجرار المجتمع التركي إلى ممارسات ضد السوريين تشبه العنصرية الألمانية ضد الأتراك.
العربي الجديد