الانتخابات المحلية التركية: مفاجأة المعارضة

الانتخابات المحلية التركية: مفاجأة المعارضة

أنتجت الانتخابات المحلية التركية، التي جرت أمس الأول الأحد، مشهداً جديداً يُتوقع أن تكون له ارتدادات مستقبلية، لا سيما على توجّهات حزب “العدالة والتنمية” الحاكم والرئيس رجب طيب أردوغان، لكن هذه التداعيات لا يُتوقع أن تصل إلى حد المطالبة بانتخابات مبكرة بعدما حافظ أردوغان وحليفه “الحركة القومية” على الصدارة بحصولهما على 52 في المائة من أصوات الناخبين. كما نجح “العدالة والتنمية” بالحفاظ على الصدارة، وأعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن حزبه فاز بـ56 في المائة من البلديات، محققاً الفوز الـ15 على التوالي في الانتخابات. على الرغم من ذلك، فإن فقدان “العدالة والتنمية” أهم معقلين له، إسطنبول وأنقرة، بعد أن حكمهما 17 عاماً، إلى جانب عدم تحقيقه أي خرق في إزمير، معقل المعارضة العلمانية تاريخياً، يوجّه إنذاراً لعهد أردوغان، بدا أنه فهمه سريعاً بإعلانه العمل على تحديد أوجه القصور والعمل على إصلاحها، والتشديد على أن أولويته خلال الفترة المقبلة ستكون تعزيز الاقتصاد وزيادة فرص العمل، لعلمه أن الفورة الاقتصادية التي شهدها عهده كانت من أهم الأسباب التي جعلته يحتفظ بالحكم حتى الآن، فيما كان تراجع سعر العملة المحلية في الفترة الأخيرة من العوامل الأساسية لانخفاض التأييد له، كما ظهر في صناديق الاقتراع.

في مقابل هذا المشهد، أعطت الانتخابات المحلية درساً في الديمقراطية، مع التزام كل الأطراف بالاعتراف بالنتائج الرسمية، حتى في إسطنبول التي استمرت فيها المنافسة حتى اللحظة الأخيرة وبدا الفارق قليلاً جداً بين مرشح الحزب الحاكم بن علي يلدريم، ومنافسه من “الشعب الجمهوري” أكرم إمام أوغلو، مع تشديد يلدريم على احترام النتائج الرسمية وعدم المطالبة بإعادة الانتخابات.

ولم يكن أشد المتشائمين في حزب “العدالة والتنمية”، ولا أشد المتفائلين في المعارضة، يتوقع أن تسفر نتائج الانتخابات عن فقدان الحزب الحاكم أهم معقلين له، إسطنبول وأنقرة، فالأولى هي المعقل الاقتصادي لتركيا، والثانية هي المعقل السياسي، على الرغم من أن الحزب حافظ تقريباً على أصواته في عموم تركيا، وحقق نجاحات في مناطق جنوب شرق البلاد، ولكن الخارطة السياسية لتركيا بعد 31 مارس/آذار الماضي، لن تكون كما كانت قبلها.

وكانت استطلاعات الرأي تشير إلى فوز حزب العدالة والتنمية في أنقرة وإسطنبول، خصوصاً الأخيرة التي كانت تُظهر تفوق مرشحه، السياسي المخضرم بن علي يلدريم، ولكن النتيجة جاءت بعكس رغبة الحزب، بفوز مرشح “الشعب الجمهوري” أكرم إمام أوغلو في إسطنبول، ومرشح “تحالف الشعب” المعارض في أنقرة منصور يافاش، متقدّماً على مرشح حزب “العدالة والتنمية” محمد أوزهاسكي.


نجح “العدالة والتنمية” بالحفاظ على الصدارة بفوزه بـ56 في المائة من البلديات

” في موازاة ذلك، نجح “العدالة والتنمية” بالحفاظ على الصدارة، وأعلن أردوغان أن حزبه فاز بـ56 في المائة من البلديات، محققاً الفوز الـ15 على التوالي في الانتخابات. وفاز “العدالة والتنمية” في عموم تركيا، بـ16 بلدية كبرى و24 بلدية في مدن أصغر و538 بلدية أقضية، و200 بلدة. أما حليفه، حزب “الحركة القومية”، فحقق بدوره فوزاً في بلدية كبرى واحدة، و10 ولايات، و146 منطقة، و70 بلدة بمجموع 227. في حين فاز حزب “الشعب الجمهوري” المعارض بـ10 بلديات كبرى، و10 ولايات، و192 منطقة، و34 بلدة، بمجموع 246، وحليفه الحزب “الجيد” فاز في 18 ولاية و3 بلدات.

وفي عموم البلاد حقق حزب “العدالة والتنمية” 44.4 في المائة من نسبة الأصوات، ومع إضافة أصوات حليفه “الحركة القومية” البالغة 7.2 في المائة، فإن “التحالف الجمهوري” الذي يضمهما يكون قد حصل على 51.6 في المائة من إجمالي عدد الأصوات، وفق النتائج الأولية. في المقابل، تمكّن “تحالف الشعب” المعارض من تحقيق 37.2 في المائة من الأصوات، وهي 30 في المائة لـ”الشعب الجمهوري”، و7.2 للحزب “الجيد”، فيما حصل حزب “الشعوب الديمقراطي” الكردي على 4,3 في المائة من الأصوات وفاز في 3 بلديات كبرى، و5 ولايات، و50 منطقة، و11 بلدة، بمجموع 69، بينما ذهبت بقية البلديات للمستقلين.

وتجاوز عدد المشاركين في انتخابات الأحد الـ84 في المائة من أصل 57 مليون مواطن يحق لهم الاقتراع، فيما كانت نسبة المشاركة في الانتخابات السابقة عام 2014 هي 89 في المائة من أصل 48 مليون ناخب. وفي انتخابات 2014، حقق حزب “العدالة والتنمية” 45.5 في المائة من الأصوات، بينما في انتخابات الأحد تراجعت نسبته بأكثر من 1 في المائة لتكون عند 44.4 في المائة، فيما ارتفعت أصوات حزب “الشعب الجمهوري” من 29.5 إلى أكثر من 30 في المائة، وكان التراجع لدى بقية الأحزاب كـ”الحركة القومية” وحزب “الشعوب الديمقراطي”. ويُعتبر الأخير أكبر الخاسرين، بخسارته 3 ولايات جنوب شرق البلاد، لصالح “العدالة والتنمية”، وولاية تونجلي وسط البلاد التي فاز بها الحزب الشيوعي التركي، وهي الولاية الوحيدة بيد الحزب الأخير.

لكن خسارة أنقرة وإسطنبول كانت ضربة موجعة لـ”العدالة والتنمية”، ولأردوغان خصوصاً، الذي كان رئيساً لبلدية إسطنبول ومنها انطلق لتصدّر المشهد السياسي في البلاد. وكان المرشحان في إسطنبول قد أعلنا قبيل انتهاء فرز الأصوات فوزهما، قبل أن يُعلن يلدريم أمس أن المرشح المنافس (أكرم إمام أوغلو) حصل على أصوات أكثر منه بنحو 25 ألف صوت، لكنه استدرك بالقول: “هناك 319 ألفاً و500 صوت ملغى، وهذه الأصوات تبلغ 10 أضعاف الفرق الذي بيني وبين منافسي، إضافة الى كل ذلك فهناك بعض التجاوزات والأخطاء”، مشيراً إلى أن هذا الفرق قد يغيّر النتيجة. وشدد على أن “القرار الأخير لسكان إسطنبول، فهم الذين أدلوا بأصواتهم ونكنّ كل الاحترام لإرادتهم”، مؤكداً أن المرشح الذي سيستلم وثيقة رئاسة البلدية من اللجنة العليا للانتخابات سيكون رئيساً لبلدية إسطنبول. وإذ لفت إلى أن عملية فرز الأصوات لا تزال متواصلة، أضاف: “نعرف كيف نقدم التهاني، ولكن الأمور لم تنتهِ بعد”. وفي رده على سؤال حول إمكانية إعادة الانتخابات، أكد يلدريم أنه من غير الوارد بالنسبة لهم القيام بذلك. من جهته، قال منافسه إمام أوغلو للصحافيين أمس “نريد أن نبدأ بالعمل على خدمة الشعب في أقرب وقت ممكن. نريد أن نتعاون مع جميع المؤسسات في تركيا لنتمكن سريعاً من سد احتياجات إسطنبول”.


أردوغان: أولويتنا خلال الفترة الممتدة للعام 2023 هي تعزيز الاقتصاد

” هذه النتيجة بررها أردوغان بالقول إن “السبب الوحيد الذي حال دون حصولنا على النتيجة المرجوة من الانتخابات هو عدم تقديم أنفسنا للشعب بشكل كافٍ”. وفي خطاب ألقاه أمام حشد من أنصاره في المقر الرئيس للحزب في أنقرة مساء الأحد، قال أردوغان إنه “اعتباراً من صباح غد (الإثنين) سنقوم بتحديد أوجه القصور لدينا، والعمل على تلافيها… إذا كانت لدينا نواقص فإن إصلاحها دين على عاتقنا”. ومضى يقول: “أولويتنا خلال الفترة الممتدة للعام 2023 هي تعزيز الاقتصاد ومواصلة النمو مع التركيز على التكنولوجيا والتصدير وزيادة فرص العمل”. ولفت إلى أن “هدف تركيا مساعدة اللاجئين السوريين للعودة إلى ديارهم وجعل منبج وشرق الفرات مناطق آمنة”.

من جهته، أكد زعيم حزب “الحركة القومية” دولت بهتجلي، احترام حزبه لنتائج الانتخابات، مؤكداً “أنها قضت على الجهات التي تتطلع لإضعاف وبث الوهن في بلادنا”. وشدد على أن “أمتنا (بهذه الانتخابات) لقنت عصابات الاقتصاد والعملة الأجنبية والمنظمات الإرهابية الدرس الذي يستحقونه”.

أما زعيم حزب “الشعب الجمهوري” المعارض، كمال كليجدار أوغلو، فقال إن “الشعب أظهر موقفاً مؤيداً للديمقراطية، وهذا يمثل ضوءاً هاماً للغاية بالنسبة لنا”. وخلال مؤتمر صحافي في المقر العام لحزبه في أنقرة مساء الأحد، أوضح أن “الجميع بلا استثناء، ليس في تركيا وحدها، بل في العالم أجمع يشعرون بارتياح من المشهد في البلاد، وذلك لأن تطور الديمقراطية عندنا وتأصلها أمر هام للغاية للمنطقة بأسرها، وليس لتركيا وحدها، إذ إن تركيا تعتبر دولة نموذجاً للبلدان المظلومة بشكل خاص”.

ودفعت هذه النتيجة للتساؤل عن الأسباب التي أدت لذلك. ويمكن تلخيصها في خمسة عناوين رئيسية، أهمها الوضع الاقتصادي الذي أثّر على الناخبين، مع عجز الحزب الحاكم عن تجاوز تأثيرات انخفاض العملة، والتضخّم، وارتفاع الأسعار، حتى أن الحلول التي قُدمت لارتفاع أسعار الخضروات والفواكه بنصب خيام والبيع بأسعار مُخفضة، لم تساهم سوى بتذكير المواطنين بالفترات التي سبقت حكم “العدالة والتنمية”، من طوابير الانتظار، وما قبل سنوات الرفاه، وهو ما أثّر بشكل خاص على المناطق الغربية التي تُعتبر متطورة قياساً بالمناطق الشرقية التي هي في طور التنمية، وبالتالي كانت نجاحات الحزب الحاكم في مناطق الأكراد جنوب شرق البلاد بانتزاع 3 ولايات من “الشعوب الديمقراطي”، وهو ما يحسب لـ”العدالة والتنمية”، مقابل النزيف في إسطنبول، وأنقرة، وإزمير.

أما السبب الثاني فيمكن تلخيصه بفشل الخطاب السياسي، والتركيز على مسألة ارتباط وجود حزب “العدالة والتنمية” بمسألة بقاء الدولة، وهو خطاب بدأ فيه حزب “الحركة القومية”، وانجر له الحزب الحاكم، وهو خطاب ذكّر بالأنظمة القمعية التي تربط نفسها بالدولة، ما أثار حفيظة شريحة من الناخبين اعتبرته دليلاً على الإفلاس السياسي.

والسبب الثالث هو لغة التهديد والوعيد التي اعتمدها أردوغان ووزير داخليته سليمان صويلو، في خطاب موجّه لخصومهما السياسيين من الأكراد ووصفهم بالإرهابيين، والتهديد بشكل مباشر بالوصاية على البلديات التي يمكن لحزب “الشعوب الديمقراطي” السيطرة عليها، كما حصل في السنوات السابقة، وهو ما أبعد الناخب الكردي عن “العدالة والتنمية” في بعض المناطق. وهذا يرتبط بالسبب الرابع مباشرة، وهو تصويت أنصار “الشعوب الديمقراطي” لمرشحي المعارضة في إسطنبول وأنقرة، ما أدى لترجيح الكفة لصالحهم مقابل مرشحي “العدالة والتنمية”. خامس الأسباب التي أدت لهذه النتيجة بحسب المراقبين وبحسب آراء شعبية، هو استغلال الهجوم الإرهابي على مسجدين في نيوزيلندا قبل أسابيع، وإظهار صور المجزرة في التجمّعات الانتخابية من قبل أردوغان، ما أثار رفض شريحة واسعة اعترضت على هذا الأسلوب من التوظيف في الحملة الانتخابية.


احتمالات الذهاب لانتخابات مبكرة غير واردة حالياً، مع محافظة “التحالف الجمهوري” على أصواته فوق حاجز 50%

” ووفقاً لهذه الأسباب والنتائج، فإن احتمالات الذهاب إلى انتخابات مبكرة غير واردة حالياً، مع محافظة “التحالف الجمهوري” على أصواته فوق حاجز 50 في المائة، على الرغم من خسارة إسطنبول وأنقرة، لكن أصواته ارتفعت في بقية المناطق. ويبدو أن السنوات المقبلة ستكون مرحلة استعداد ليثبت كل طرف نفسه، والدخول في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وعلى الرغم من ذلك فإن التطورات الاقتصادية قد تدفع للمطالبة بانتخابات مبكرة إذا لم تجد الحكومة حلولاً لانخفاض العملة المحلية، والتضخّم، وارتفاع الأسعار، خصوصاً أن هناك رفاقاً سابقين لأردوغان قد يستغلون نتيجة الانتخابات هذه مع أي تراجع اقتصادي، لطرح أنفسهم كبديل عن “العدالة والتنمية”، مع تحضير هؤلاء لتشكيل أحزاب جديدة.

وإزاء النتائج والأوضاع الجديدة، وحفاظ “العدالة والتنمية” على النسبة الكبرى من الأصوات، فإن خارطة جديدة ستظهر بالتركيز على خزان جديد للأصوات في منطقة الأناضول وجنوب شرق البلاد، وإن كانت النتائج قد لا تستدعي انتخابات مبكرة، فإنها رسالة واضحة على تراجع الدعم الشعبي الكبير لأردوغان. وقد تزيد الضغوط عليه في الفترة المقبلة داخلياً وخارجياً، خصوصاً في ظل ملفات دولية كثيرة عالقة، فضلاً عن ضرورة التوجّه لإيجاد حلول للملف السوري، بعدما استغلت أطراف في المعارضة التركية وجود مئات آلاف اللاجئين السوريين عبر اعتماد خطاب عنصري ضد التواجد السوري في تركيا، ويبدو أن ذلك انعكس على أصوات الناخبين. وعليه فإن الفترة المقبلة قد تشهد حملة كبيرة من أردوغان تستهدف تجديد الكوادر وإعادة تأهيلها استعداداً للمرحلة المقبلة.

العربي الجديد