موجعٌ حقاً أن يكون الحزب الحاكم في تركيا العدالة والتنمية، وبعد عقدين، أمام حقيقة أنه لن ينفرد خمس سنوات مقبلة في إعطاء القرارات وطرح السياسات والمشاريع في المدن التركية الرئيسية… “تحالف الشعب” الذي يضم “العدالة والتنمية” والحركة القومية اليمينية، تقدم على منافسه المعارض “تحالف الأمة” بنحو أربع نقاط من مجموع الأصوات ( 51.63% مقابل 47%)، وقد جاءت نسبة حزب العدالة والتنمية (الحاكم) بـ44.32% ليحتل المرتبة الأولى، بينما جاءت نسبة حزب الشعب الجمهوري المعارض 30%. كما تمكّن حزب العدالة والتنمية بمفرده من السيطرة على رئاسة 39 بلدية كبرى وولاية من أصل 81 بلدية. لكن المشكلة هي نجاح المعارضة في اختراق الساحلين الغربي والجنوبي بأكملهما تقريباً، إلى جانب إدارة شؤون أكبر بلديتين في تركيا أنقرة وإسطنبول، وإجبار الحزب الحاكم على التراجع أمام خصمه، وتسليمه إدارة شؤون 11 بلدية كبرى أولاً، ثم اللجوء ثانياً إلى أسلوب الطعن بالنتائج، وهو ما انتقده دائماً في الانتخابات السابقة، نهجاً تعتمده أحزاب المعارضة للإساءة إلى سمعة تركيا، ونظامها الانتخابي الأكثر حداثة وديمقراطية بالمقارنة مع دول كثيرة.
هل سيواصل حزب العدالة والتنمية البحث عن فرص الفوز في إسطنبول، أم سيتحول نحو معرفة ما الذي جرى يوم 31 مارس/ آذار؟ هل سيسارع إلى بحث أسباب خسارته مدناً تركية كبرى كثيرة، وإطلاق عملية نقد ذاتي بتجرّد وموضوعية، ومراجعة حقيقية لما قالته الصناديق، والتعامل مع ما قاله الناخب، أم سيكون هناك تجاهل والتفاف ورمي الكرة مرة أخرى في ملعب المؤامرة وضرورة التصدّي لها؟ وهل سترتفع أصوات تدعو إلى الصناديق مبكراً من دون انتظار عام 2023؟ وهل سيبتعد الحزب باكراً عن تحليلات الإعلام المحسوب عليه وآراء هذا الإعلام، إذ بدأ بعضهم يتحدث عن مؤامرة جديدة في الانتخابات المحلية، تذكّر بمحاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016. وبأن ما جرى هو انقلاب عبر الانتخابات، بتورّط جماعة فتح الله غولن وتنظيم حزب العمال الكردستاني.
وهل سيطلق خطة بحثٍ ودراسة لا مفرّ منها، من أجل المحاسبة ودراسة أسباب خسارة مدن
“قال الناخب التركي نعم للمعارضة في الإشراف على المدن الأكثر كثافة سكانية، والأقوى اقتصادياً” تركية كثيرة، أم أن الأولوية ستكون لإعداد خطة مواجهة بلديات المعارضة التي خرجت عن إرادته في المدن الكبرى، وخصوصاً مدينتي أنقرة وإسطنبول، والبحث عن فرص تقنين الدعم المالي، إذ يقدر إجمالي موازنتيهما بنحو 9 مليارات دولار؟ كيف سيعالج حزب العدالة خسارته هذه، هل عبر إبعاد قيادات وكوادر بعد تحميلها المسؤولية، أم هو سيطرح استراتيجية تحرك جذري جديد، تذكّر بانطلاقته عام 2002، وبالعودة إلى جمع التوجهات الفكرية والاجتماعية حول قواسم سياسية مشتركة، تعيد إليه ما فقده من ثقل في الداخل والخارج؟ وخصوصاً أن الحديث بدأ يتزايد عن سيناريوهات التفكك والانشقاقات في صفوفه، وحديث آخر بشأن وضع اللمسات الأخيرة لإعلان حزب إسلامي محافظ جديد، بإشراف المغبونين والمبعدين والمهمشين؟
كانت قيادات “العدالة والتنمية” نفسها تقول للمعارضة، عندما تعترض على نتائج الانتخابات في العامين 2014 و2017، بأن من يطعن بالنتائج هو الطرف الخاسر دائماً. هل ستتذكر هذه العبارة اليوم، بعدما كانت تردّد أن النظام الانتخابي التركي، ونزاهة العملية الانتخابية في تركيا، هما بين النماذج الأهم في العالم؟ الحديث عن “قوى الظلام التي تواصل التآمر على تركيا” شيء، وقبول حقيقة أن حجم الطعون في النتائج يصل إلى نصف مجموع أرقام التصويت شيء آخر.
حقيقة أخرى ينبغي تذكرها عند البحث عن أسباب الخسارة، أن عشرات الآلاف من أنصار حزب العدالة والتنمية صوتت للمجلس البلدي، لكنها لم تصوّت لمرشح رئاسة البلدية، تماماً كما حدث في إسطنبول، حيث صوت 83 ألف ناخب من أنصار “العدالة والتنمية” لمرشح الشعب الجمهوري المعارض، كما تقول قراءات أولية للنتائج.. من أين يمكن لحزب العدالة والتنمية أن يبدأ؟ بالمصالحة والتطبيع مع رؤساء البلديات القادمين من صفوف المعارضة، وإعلان أن توزيع الدعم المالي على البلديات سيكون شفافاً وعادلاً ومنصفاً، وأنه لا نية للحزب لدخول معركة تصفية الحسابات مع الفائزين، واحترام إرادة الناخب وقراره.
من الصعب أن يرضى حزب العدالة والتنمية بوجود المدن الكبرى بيد خصومه السياسيين، لكنه مدعوّ إلى قبول ذلك، تماماً كما حدث مع الأحزاب اليسارية والأتاتوركية العلمانية التي نزلت إلى الشوارع مراتٍ، لمحاولة تغيير الأمور ففشلت، وكان المفتاح دائماً بيد الناخب وإرادته. وقد وقف الناخب إلى جانب مرشح المعارضة في أنقرة منصور يواش، لا لأن “العدالة والتنمية” فشل في شرح “مخاطر” جلوس شخصيةٍ من هذا النوع فوق كرسيّ رئاسة بلدية العاصمة، بل لأنه رفض أسلوب ونداءات الاستهداف لهذا المرشح، والتلويح بمطاردته، حتى ولو فاز في الانتخابات، فهل سيمضي حزب العدالة وحليفه حزب الحركة القومية في التصعيد ضد يواش، وهما يعرفان أن قرار الناخب هو منحه فرصة إدارة شوؤن البلدية هناك؟
ما سيفعله الرئيس أردوغان هو التحضير لاستراتيجية العام 2023، موعد الانتخابات
“من الصعب أن يرضى حزب العدالة والتنمية بوجود المدن الكبرى بيد خصومه السياسيين، لكنه مدعوّ إلى قبول ذلك” البرلمانية والرئاسية، بدلاً من الدخول في نقاشات ترك تركيا أمام انتخابات مبكرة، ويبقي الصناديق أمام عين المواطن الذي يريد من الحكم أن يلتفت أكثر فأكثر الى شؤون الداخل والخارج، لمعالجة مشكلات وأزمات كثيرة تنتظر. وما لن يفعله أردوغان هو المضي وراء أصوات وأقلام وآراء تدعو إلى الاستمرار في حالة الاصطفاف والتصعيد، وضرورة الانتقام من المعارضة التي تحالفت في ما بينها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
المهم أن لا تتحوّل الطعون إلى طعنات سياسية وحزبية متبادلة، توتر الأجواء أكثر فأكثر، وأن لا يكون هدوء اليوم هدوءَ ما قبل العاصفة، وأن يقبل الجميع أنها انتخاباتٌ تعكس المزاج العام للناخب التركي، والرابح سيكون من يحترم قراره، ويترجمه عملياً إلى سياسة واقعية، ملزمة للحكم والمعارضة على السواء. والدعوة إلى انتخابات مبكرة بطابع انتقامي ستكون الخيار الأصعب على من يريده ويطالب به. ولن يسمح المواطن التركي بذلك وسط هذه الظروف والأجواء. الأفضل والأسهل هو مراجعات نقدية حزبية وسياسية شاملة في ملفات الداخل والخارج، تقرب الحكم والمعارضة من بعضهما، وتفتح الطريق أمام الهدنة والتطبيع، والناخب التركي اليوم سيدعم من يقدم على هذه الخطوة، ويرفع هذا الشعار.
إلى ذلك، ربح “العدالة والتنمية” الصوت الكردي في الشرق وجنوب شرق البلاد، لأن الكرد رفضوا أسلوب حزب الشعوب الديمقراطية ونداءاته، لكنه لم يستفد كثيراً من الصوت الكردي في الغرب والشمال، الذي دعم مرشحي المعارضة. فما الذي سيفعله لكسب هذا الثقل إلى جانبه هناك أيضاً؟ وأي أسلوب سيتبع في المرحلة المقبلة، وهو يتعامل مع هذا الملف الشائك والحساس؟
ومن جانب آخر، قبل أن يحسم حزب العدالة والتنمية موقفه، ويقرّر إعادة عشرات الآلاف من صناديق الاقتراع إلى المخازن، لا بد أن يحدد موعد إعلان مؤتمره العام الاستثنائي الجديد،
“اللامفر منه هو مواجهة ما جرى بكل تفاصيله، من دون مواربة ومحاولة الالتفاف” لتقويم نتائج الانتخابات المحلية، ومحاولة معرفة ما حدث، وهو غير ما قاله نائب رئيس الحزب بشأن أكبر انتخابات معيبة في تاريخ تركيا. واللامفر منه هو مواجهة ما جرى بكل تفاصيله، من دون مواربة ومحاولة الالتفاف، لأن الناخب يريد أن يرى كيف سيتعامل الحزب الحاكم مع كل هذه التناقضات والارتباك والتردد في مواقفه قبل الانتخابات وبعدها. في الأمس، وثقوا بالصناديق والنموذج التركي الانتخابي، واليوم هي عملية انتخابات شابتها شبهاتٌ كثيرة.. مقولة لن يقتنع بها كثيرون.
تراهن المعارضة على بداية سقوط أحجار الدومينو السياسي في تركيا، فهل يعطيها “العدالة والتنمية” هذه الفرصة؟ لا، بل هل سيقبل الناخب التركي بذلك، وهو الذي أعلن أنه متمسك بحزب العدالة والتنمية على رأس الهرم السياسي في البلاد؟
البلديات التي فتحت الطريق على وسعها أمام أردوغان ورفاقه عام 1994، بدأت تذكّره أيضاً بأن الولاء ليس ثابتاً، وأن الأمور تتعلق بالالتفات الحقيقي إلى حجم الأزمات والمشكلات في الداخل والخارج، وضرورة معالجتها، والمسألة لا يمكن حصرها بنظرية المؤامرة، واستهداف تركيا، وضرورة الردّ على ذلك.
قال الناخب التركي نعم للمعارضة في الإشراف على المدن الأكثر كثافة سكانية، والأقوى اقتصادياً ومركز القرار السياسي في البلاد، لكنه قال أيضاً ببقاء حزب العدالة الحزب الأول والأقوى والأوفر حظاً للاستمرار في حكم البلاد، والمهم هو قراءة العنوان على الظرف، بقدر الأهمية التي ستولى للمظروف.
العربي الجديد