ترتبط عملية خليفة حفتر الحاليّة للسيطرة على العاصمة الليبية طرابلس، على الأغلب، بأمر صدر خلال لقائه بالملك السعودي سلمان بن عبد العزيز أواخر الشهر الماضي، وهو أمر ما كان سيصدر من دون قبول ضمنيّ دوليّ، والحديث هنا عن الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا (من دون استبعاد رضا إيطاليا وأطراف أوروبية أخرى).
تحفل ملابسات الحدث بمجموعة من الدلالات، أكثرها مفارقة هو أن القرار العربيّ للهجوم في الوقت تمّ قبل أيام من القمة العربية الأخيرة في تونس، وهو ما يدلّ على احتقار دول المحور الرباعيّ لتلك القمة واعتبارها من قبيل اجتماعات المجاملات التي يتحدّث فيها الجميع عن التضامن العربيّ والتسويات والمصالحات فيما السكاكين وراء الظهور ومؤامرات كل طرف جاهزة للفتك بهؤلاء الذين يجتمعون ويتصوّرون معهم صورا للذكرى، وهو عين ما حصل في الموضوع الليبي.
المفارقة الثانية تؤكد الأولى لكنها توسّع إطارها لتشمل العالم فهي تظهر اتفاقا عربيّا ـ دوليّا على الاستهزاء بالأمم المتحدة التي كان أمينها العام أنطونيو غوتيريش في ليبيا للتحضير لمؤتمر لـ«المصالحة الوطنية» الليبية (الذي كان سيعقد في مدينة غدامس قريباً) عند بدء الهجوم، مما اضطرّه للمثول في «حضرة» الجنرال حفتر الذي أبلغه أنه (كما كان دائما) غير مهتم بمصالحات وتسويات وعمليات انتخاب الخ… وأن الأمر صدر بـ«القضاء على الإرهاب» أي القضاء على الحكومة التي تعترف بها الأمم المتحدة والمنظومة الدوليّة كسلطة شرعيّة.
المفارقة الثالثة تخصّ شخصية حفتر، الذي كان رفيق معمر القذافي في الانقلاب على النظام الملكي الليبي عام 1969، ثم قائداً للحرب على تشاد في ثمانينيات القرن الماضي حيث هزم في معركة وادي الدوم وتم أسره ومئات الضباط والعناصر هناك وتبعت ذلك صفقة استخباراتية أمريكيّة أمّنت انشقاقه عن القذافي (الذي كان مكروهاً بشدة من الغرب) وخروجه من السجن للإقامة في الولايات المتحدة الأمريكية (حيث نال جنسيّتها)، قام خلالها بمحاولة فاشلة للإطاحة بالقذافي عام 1993، وبعد الثورة الليبية عام 2011 قاد محاولة فاشلة أخرى للانقلاب على الحكومة الثورية في شباط/فبراير 2014 قبل أن ينشق رسميّا في 16 أيار/مايو 2014 ويطلق عملية لـ«تطهير ليبيا من الإرهاب والعصابات والخارجين عن القانون»، من دون أن ينسى إضافة الجملة الفكاهية التالية: «والالتزام بالعملية الديمقراطية»!
يفسّر هذا التاريخ الكثير من تفاصيل شخصية حفتر، ومنها ميله الدائم للانتظام في خدمة أجندة أجنبية ـ عربيّة تقوم بحمايته وتقديم العون الماديّ والعسكريّ له، وتمتدّ هذه الأجندة من أمريكا وبعض الجهات الأوروبية، ودول عربيّة، إلى روسيا التي تلقّى فيها دورات عسكريّة، وحاول استخدامها في خرق الحظر الأممي على توريد السلاح إلى ليبيا، كما في ترهيب وترغيب القوى الغربية التي لا تستسيغ عودة قذافي جديد إلى السلطة في ليبيا.
مراهنة بعض القوى الغربيّة على الجنرال المسكون بعقدة الفشل ملتبسة، فحفتر أقرب إلى شخصية القذافي مما يعتقد كثيرون، وهو يعاني من تضخّم نرجسيّ هائل يكاد يتفوق فيه على قائده السابق، ففي حين اكتفى القذافي بلقب «العقيد» (كولونيل في التسمية اللاتينية للرتبة)، فإن حفتر (الذي لم ينجح في معركة حتى الآن سوى على الليبيين – ودائماً بدعم جوّي من دول غربيّة وعربية) رفّع نفسه خلال سنوات قليلة من لواء إلى فريق ثم إلى مشير على جيش صغير لا يحتمل عدد جنوده كل هذه الرتب الثقيلة الوزن.
بهذا المعنى فإن الدول الغربيّة والعربية التي تدعم حفتر لم تنتبه إلى حجم الغطرسة والتنمّر والرغبة في الانتقام التي تتأكل الجنرال المهزوم، ليس من الليبيين الذين عارضوه فحسب، بل كذلك من الحلفاء الطارئين، في مصر والسعودية والإمارات، أو في أوروبا، فشخص بعقد الجنرال الكثيرة تلك يعتقد، من دون شك، أنه سيعيد أولئك «الحلفاء» المفروضين عليه، إلى «حجمهم» الطبيعي حالما يصبح دكتاتورا مطلقا على بحر من النفط.
القدس العربي