تحتلّ العناوين السعودية الصحف مرّةً أخرى، لكنّ عنواناً واحداً من بينها يختلف اختلافاً كبيراً عن سائر الأخبار المُعتادة التي تتمحور حول مقتل الصحفي جمال خاشقجي، أو الحرب في اليمن، أو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، أو الناشطات المُعتقلات في المملكة. فهذا العنوان يأتي ليعلن أنّ شركة النفط السعودية “أرامكو” التي تملكها الدولة، قد حقّقت أرباحاً في العام الماضي تفوق أرباح أيّ شركة أخرى في العالم.
فوفقاً لصحيفة “وول ستريت جورنال”، بلغ صافي دخل الشركة (أي ما يُعتبر أرباحها) 111 مليار دولار، علماً أنّ دخلها كان قد وصل إلى 212 مليار دولار قبل اقتطاع الضرائب وغيرها من النفقات.
وللمقارنة، أفادت الصحيفة أنّ هذا الدخل يعادل مجموع الميزانيات العسكرية للدول الـ 28 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. كما ذكرت صحيفة “فاينانشال تايمز” إنّ هذا الربح يبلغ تقريباً ضعف دخل شركة “آبل” وخمس مرّات أرباح شركة النفط المنافسة “رويال داتش شل”.
وهذه الأرقام تتحدى المنطق، لكنّ تفسيرها بسيط في الواقع: فيسهل جداً (وبالتالي تنخفض تكاليف) العثور على النفط في المملكة العربية السعودية، حيث يتراوح سعر البرميل بين 3 و 5 دولارات، ولذلك عندما يتمّ إنتاج عشرات الملايين من البراميل في اليوم الواحد ويمكن بيعها بأكثر من 60 دولار للبرميل، فمن الطبيعي أن تؤدي هذه المُعادلة إلى كسب مبالغ كبيرة.
بيد أننا لم نكن على اطلاع على تفاصيل أرباح “أرامكو” السعودية بسبب سرّية الشركة في هذا المجال. فما الذي تغيّر؟ “أرامكو” تريد اقتراض المال. قد تُفاجئ هذه الإجابة أيّ شخص لا يعمل في بورصة “وول ستريت” أو لا يتمتّع بالخبرة المالية الكافية، لكنّها إجابة منطقية، وحتى أنها تكشف عن معلومات قيّمة.
بالفعل، تحتاج الشركة إلى الأموال لشراء جزء من شركة البتروكيماويات العملاقة “سابك” (“الشركة السعودية للصناعات الأساسية”) المملوكة للدولة. وحالياً، يملك “صندوق الاستثمارات العامة” التابع للدولة شركة “سابك”، لكنّ “أرامكو” السعودية أعلنتأ نها ستقوم بشراء 70 في المائة من حصص الشركة بقيمة 69 مليار دولار تقريباً. وللمساهمة في تسديد تكاليف الشراء، تسعى “أرامكو” إلى إصدار سندات بقيمة 10 مليارات دولار على أمل أن يشتريها المستثمرون الأجانب. غير أنّ هؤلاء المستثمرين قد يرغبون في معرفة المزيد عن السندات التي يشترونها، وهذا ما دفع “أرامكو” إلى نشر تفاصيل وضعها المالي.
ويمكن النظر إلى هذه التطورات من جانب آخر، وهو أنّ السعودية بحاجة إلى جمع الأموال لتمويل برامجها الطموحة للبنى التحتية، من بينها مشروع “نيوم” في البحر الأحمر وتحويل وسط مدينة الرياض إلى منطقة خضراء عملاقة يبلغ حجمها عدّة أضعاف حجم حديقة “سنترال بارك” في نيويورك. وكانت المملكة تأمل في بيع جزءاً من “أرامكو” السعودية لتأمين الأموال اللازمة، لكنّها لم تنجح في تحقيق ذلك لأنّ المستثمرين حول العالم لم يرغبوا في دفع السعر الذي حددته السعودية البالغ 100 مليار دولار. لذا تعمل “أرامكو” اليوم على شراء جزء من شركة “سابك” وتريد أن يساعدها العالم في مسعاها بمنحه لها 10 مليارات دولار. ومن الجدير الذكر أنّ صافي دخل “صندوق الاستثمارات العامة” يبلغ 69 مليار دولار، وهي معاملة داخلية إلى حدّ كبير من الناحية الحسابية. بعبارة أخرى، يأخذ الصندوق هذه الأموال من الجيب الأول ليضعها في الجيب الثاني.
قد يذكر البعض إعلان الأمير محمد بن سلمان رؤيته للبلاد منذ عامين، المعروفة بـ “رؤية السعودية 2030” التي تستند إلى فكرة إبعاد الاقتصاد السعودي عن اعتماده على النفط، الذي اعتُبر وقود الحقبة الماضية. غير أنّ هذه النقطة لم تعُد تحظى بالاهتمام نفسه هذه الأيام، لدرجة أنه لا يتم ذكرها. ولربما يشير الأشخاص الذين يدقّقون في التفاصيل إلى أنّ مسألة الدَيون المُقترحة تشمل سندات أمدها 30 عاماً. ولا يعني ذلك أنّ المملكة تعيد النظر بشكل جذري في مستقبلها النفطي، لكنها تضيف فارقاً بسيطاً.
وفي حين انجذبت الشركات الأجنبية سابقاً إلى فرص الاستثمار التي تقدّمها عملية إعادة التشكيل التي أطلقها الأمير محمد بن سلمان، إلّا أنّ هذه الشركات نفسها تتوخى الحذر اليوم – على الأقلّ من حيث سمعتها – بعد مقتل خاشقجي. غير أنّ الأشخاص الذين يتعاملون بالشؤون المالية أقلّ تكبّراً. وكما ذكرت صحيفة “فاينانشال تايمز” سيشكّل هذا التمرين “اختباراً لمدراء الصناديق يقيّم استعدادهم لدعم شركة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتطور الدولة السعودية”. وعلى حد تعبير صحيفة “وول ستريت جورنال”، من المتوقع أن يستخدم “صندوق الاستثمارات العامة” مبلغ الـ 69 مليار دولار التي يكسبها “لتنفيذ أجندة الأمير محمد”.
ولم يطغَ ربّما على خبر “أرامكو” السعودية إلا ذلك الذي نشرته صحيفة “واشنطن بوست” الذي أفاد أنّ أولاد جمال خاشقجي تلقوا الأموال من الحكومة السعودية لمنعهم (بنجاح على ما يبدو) من الحديث عن المصير الذي طال والدهم قبل ستة أشهر. وقالت الصحيفة إنّ المزيد من الأموال قد تُدفع بعد انتهاء محاكمة المُتّهمين بمقتل خاشقجي وتقطيع أوصاله. فالعالم يتقدّم وينسى… أم ليس كذلك؟
معهد واشنطن