الباحثة شذى خليل*
يذكر التاريخ أن بريطانيا تمسكت على الدوام بمسافة فاصلة بينها وباقي دول أوروبا “القارة العجوز”، وجاء الانضمام متأخراً بعد رفض أولي ، فعندما أعلن عن تأسيس لبنة الاتحاد الأوروبي في العام 1957 كتكتل اقتصادي ، أحجمت بريطانيا وقتها عن حجز مكان لها ضمنه ، ولم تعدل عن موقفها سوى في العام 1973 أي بعد 16 عاما.
ورغم تأخر القرار ، سرعان ما شابته أزمة ثقة قادت لاستفتاء Brexit أول ، بعد سنتين فقط من اللقب الأوروبي ، لكن حينها رجحت كفة مؤيدي البقاء بـ67% من الأصوات.
ان نتائج الاستفتاء القديم هذا لم تخمد جذوة الرغبة في الانفصال عن الاتحاد الأوروبي ، بل انها ظلت لعقود ظلت حاضرة في الوجدان البريطاني ، ولا ادله على ذلك من رفض لندن الانضمام إلى منطقة اليورو واعتماد العملة الأوروبية الموحدة ، وتشبثها بعملتها الوطنية ، ولا هي قبلت أيضاً بالدخول في اتفاق “شنغن” أو منطقة الحدود المفتوحة بين دول أوروبا.
ومنذ الأزمة المالية العالمية التي ولدت أزمة منطقة اليورو ، مرورا بأزمة اللاجئين والتخبط الأوروبي في معالجتها ، شكلت جميعها رغبة الانفصال من جديد في وجدان كثير من البريطانيين ، وتشير استطلاعات الرأي المختلفة إلى أنهم يزيدون أو ينقصون بقليل عن نصف الشعب.
اليوم بريطانيا في طريقها الى الخروج من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق ، وذلك لأن هنالك صفقة تتيح للندن وبروكسل فترة انتقالية مدتھا 21 شھرا للتفاوض على آلية تجارية جديدة معرضة لخطر الانھيار.
خسائر الانفصال:
الاقتصاد البريطاني منذ الاستفتاء على الانفصال وهو يسجل خسائر هائلة بنحو مليار دولار خسائر أسبوعية ، وتبلغ قيمة الناتج الاقتصادي المفقود منذ الاستفتاء حوالي 800 مليون جنيه إسترليني (مليار دولار) في الأسبوع ، أو 4.7 مليون جنيه إسترليني (6 ملايين دولار) في الساعة.
وتتراكم العواقب الاقتصادية السلبية ، على الرغم من عدم وجود تغييرات هيكلية حتى الآن في علاقة بريطانيا التجارية مع دول الاتحاد الأوروبي أو بقية العالم.
يعد الاتحاد الأوروبي أكبر شريك تجاري لبريطانيا في تصريف البضائع والخدمات إليه ، ولقد كان من السهل على الشركات البريطانية توظيف عمال في الاتحاد الأوروبي ، والحفاظ على سلاسل التوريد التي تتقاطع مع الحدود الوطنية ، لكن في ظل عدم وضوح شروط التجارة المستقبلية في المملكة المتحدة منذ ما يقرب من ثلاث سنوات ، جعل من الصعب على الشركات التخطيط للمستقبل.
فيما تعلن شركات في قطاع الخدمات المھيمنة على الاقتصاد تقليص وظائف للمرة الأولى في ستة أعوام وتراجع الطلبات ، فيما سجل ھروب لصانعي السيارات (ھوندا، تويوتا، نيسان اليابانية) ، وإعلان جاغوار لاند (أكبر شركة لصناعة السيارات في بريطانيا) وفورد موتورز عن تخفيضات كبيرة للوظائف في أوروبا.
كما أعلنت شركات سوني وباناسونيك وھيتاشي كذلك خفض عملياتھا في بريطانيا قبل “بريكست”…، وقد أشارت بعض الوقائع إلى عدة أمور أهمها:
• تراجع ثقة الشركات البريطانية في شباط الماضي إلى أدنى مستوياتھا منذ حزيران 2016.
• مؤخراً أظهر استطلاع رأي أجرته “ديليوت” و ”معھد المحاسبين القانونيين” في إنكلترا ، تخوّف أصحاب الأعمال من انفصال المملكة المتحدة عن الاتحاد الأوروبي في ظل عدم التوصل لاتفاق ، كما أظهر الاستطلاع أن ثقة الشركات أصبحت في أدنى مستوياتھا في عقد من الزمان.
حتى الآن صناعة الخدمات المالية في بريطانيا لم يمسھا سوء الى حد كبير ، إذ يتوقع نقل أو خلق نحو 2000 وظيفة في الخارج حتى مع تنامي خطر انفصال مصحوب باضطرابات.
ومع شعور معظم المصرفيين بالثقة أنه سيتم التوصل الى حل وسط ، تعتزم بنوك الاستثمار الكبرى تعيين عدد أكبر بكثير من العاملين في لندن مقارنة بأية مدينة أخرى في أوروبا ، ما يشير الى أنھا تتوقع أن تظل بريطانيا مركز صناعة المال العالمية في الأجل القريب على الأقل.
وتتمتع البنوك وشركات التأمين في بريطانيا في الوقت الحالي بإمكانية التواصل من دون أية عوائق تذكر مع عملاءها في أنحاء الاتحاد الأوروبي في أغلب الأنشطة المالية.
ويعد مستقبل لندن كمركز لصناعة المال في أوروبا واحدا من أھم نتائج محادثات الانفصال عن الاتحاد الأوروبي ، لأن ھذه الصناعة تشكل أكبر مصادر دخل للصادرات في بريطانيا ، وأكبر مصدر للدخل من ضرائب الشركات ، لكن شكوك “بريكست” تھدد التصنيف السيادي لبريطانيا ، حيث ترى وكالة “فيتش” أن الطلاق من دون اتفاق من شأنه أن يؤدي الى اضطرابات كبيرة في الاقتصاد البريطاني ، وأن يقوّض آفاق الاتفاقات المستقبلية بشأن التجارة الحرة ، على الأقل في المدى القصير.
وبهذا يسجل الناتج الاقتصادي البريطاني انخفاضا كبيرا في الاستثمار ، وتراجع الإنفاق من قبل الأفراد ، وان عدم اليقين إزاء بريكست أثر على نمو الاستثمار في أعقاب التصويت على الخروج من الاتحاد الأوروبي.
مشكلة ايرلاندا:
رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي ، لازالت تقاوم على أمل أن تحصل على تنازلات أوروبية تخص مشكلة الحدود الإيرلندية تقدمھا للمشرّعين البريطانيين من أجل إنقاذ الموقف والحصول على دعم لخطة خروجھا من الاتحاد الأوروبي.
أما بالنسبة الى أيرلندا ، تتجنب الحديث عن الخطوات التي ستتخذها في حال حصول بريكست من دون اتفاق ، ولكن الوضع الافتراضي يلزمها ، ويلزم بريطانيا ، بتطبيق الفحوص الجمركية وفقاً لقوانين الاتحاد الأوروبي ومنظمة التجارة العالمية على جانبي الحدود.
وقال رئيس الوزراء الأيرلندي ليو فارادكار ، إن سيناريو عدم الاتفاق سيشكل معضلة حقيقية لأيرلندا ، وأنه “سيكون على كل من بريطانيا وأيرلندا الالتزام بتطبيق اتفاقية الجمعة العظيمة ، وحماية عملية السلام ، والالتزام بتعهداتنا لسكان أيرلندا وأيرلندا الشمالية ، ولن تكون هناك حدود صلبة.
والنتفاوض على اتفاقية خاصة بالجمارك والقوانين التنظيمية والتي ستؤدي إلى توافق تام بين الجانبين بحيث لا تكون هناك حدود صلبة.
فالحكومة البريطانية ترفض بأن تكون أيرلندا الشمالية متوافقة في شؤونها التنظيمية مع دبلن وبعيدة عن لندن ، وهو ما يعد خطاً أحمر لدى مؤيدي بريكست المشدد والحزب الاتحادي الديمقراطي الأيرلندي ، شريك ماي في البرلمان.
وأعلنت ماي أمام النواب أنھا تحتاج الى الوقت للبحث مع الاتحاد الأوروبي تعديل اتفاق “بريكست” الذي توصلت إليه مع بروكسل ، بحيث يرضي البرلمان ، ما يضفي مزيدا من الغموض على تفاصيل خروج لندن.
وأدخل بند على اتفاق “بريكست” كحل أخير وينص على بقاء المملكة المتحدة ضمن اتحاد جمركي مع الاتحاد الأوروبي وبقاء مقاطعة إيرلندا الشمالية البريطانية ضمن السوق الأوروبية المشتركة للسلع ، وذلك لتفادي أية رقابة جمركية وتنظيمات مادية بين شطري إيرلندا ، مما أثار غضب النواب البريطانيين الذين يخشون أن يربط ھذا الإجراء بشكل دائم بريطانيا بالاتحاد ، ويھدد وحدة المملكة بسبب المعاملة الخاصة لإيرلندا الشمالية.
ومؤخراً ، عُقدت في بروكسل قمة أوروبية استمرت ثماني ساعات لم تحضر رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي معظمھا ، ووافق الاتحاد الأوروبي على تأجيل “بريكست” حتى الـ31 من تشرين الأول المقبل ، مُبقيا الباب مفتوحا أمام خروج بريطانيا قبل ھذا التاريخ ، ورافقت التمديد الأوروبي شروط عدة ، كان أبرزھا حماية الاتحاد من تدخل بريطاني.
وقبلت رئيسة الوزراء البريطانية المھلة الجديدة رغم أنھا كانت دعت إلى تأجيل حتى الـ30 من حزيران المقبل فقط ، وشددت: “ما زال بإمكاننا أن نخرج في 22 أيار المقبل ، وبالتالي تفادي المشاركة في الانتخابات الأوروبية التي تنطلق في 23 أيار ، ”مشيرة إلى أنه يكفي لحصول ذلك أن يوافق النواب على الاتفاق المبرم مع بروكسل”.
ولم تفقد ماي الأمل بإقناع النواب ، وبدأت طرح سلسلة من عمليات التصويت الاستدلالية حول مستقبل العلاقة التي يريدونھا مع الاتحاد الأوروبي بعد “بريكست”.
ويرفض جزء من النواب المحافظين اتفاق ماي ، بسبب ما يعرف ببند “شبكة الأمان” الذي يھدف إلى تفادي عودة الحدود المادية بين مقاطعة آيرلندا الشمالية البريطانية وجمھورية آيرلندا العضو في الاتحاد الأوروبي ، وينص على بقاء المملكة ضمن الاتحاد الجمركي الأوروبي إذا لم يتم التوصل إلى حل آخر ، وضمنت ماي مبدئيا اتفاق “بريكست” خروجا من الاتحاد الجمركي والسوق المشتركة حتى تتمكن المملكة من إقامة علاقاتھا التجارية الخاصة ، ومراقبة الھجرة عند الحدود ، لكن حزب العمال يريد أن تبقى المملكة ضمن الاتحاد الجمركي ، والإبقاء على علاقات وثيقة مع الاتحاد الأوروبي.
في الواقع ، هناك ثلاثة سيناريوھات أمام لندن ، وھي:
1. إما التصديق على الاتفاق في البرلمان.
2. أو سحب طلب الخروج ، أي عكس طلب تفعيل المادة خمسين التي تتيح الطلاق من الاتحاد بحيث تبقى بريطانيا عضوا.
3. وأخيرا الخروج من غير اتفاق في اليوم التالي الخميس 31 تشرين الأول ، وھو ما يدفع إليه الجناح المتشدد في حزب المحافظين.
ستكون الأشھر المقبلة حساسة ، مع تشكيل مفوضية أوروبية جديدة في أعقاب الانتخابات ، ومع المناقشات حول عدة ملفات مثل الميزانية المستقبلية على المدى البعيد للاتحاد الأوروبي ، وتعد النتيجة هزيمة برلمانية لحكومة بريطانية في العصر الحديث ، ما يعني أنها تواجه الآن أزمة سياسية عميقة ، دون مخرج واضح من الفوضى التي حدثت.
وحدة الدراسات الاقتصادية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية