عندما قرر نابليون بونابرت اقتحام عكا عام 1799، كان واثقا من قدرة جيشه على تنفيذ المهمة في أسبوعين، لكن العملية استمرت لفترة طويلة وانتهت بتحطم أحلام الفرنسيين على أسوار المدينة وإغراق سفنهم في البحر.
وبعد مرور 220 عاما على هذه المعركة، ما يزال الزعماء يرسمون خططا لمهمات خاطفة، وما إن يشرعون في تنفيذها حتى تعترضهم عقبات سياسية وميدانية تؤكد انفصالهم عن الواقع وأنهم كانوا يسبحون في الوهم.
وفي السنوات الأخيرة، هناك خمس مهمات أراد أصحابها إنجازها في ظرف قياسي لكنها طالت لسنوات إلى حد أن الاستمرار فيها بات عنادا لا طائل من ورائه:
1 – البريكست
في 23 يونيو/حزيران 2016 صوت 51.89% من الناخبين البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي بعد أن ظلت المملكة المتحدة عضوا فاعلا في المنظومة الأوروبية لأكثر من أربعين عاما.
وقد استجاب الناخبون لأصوات سياسية ترى في تطليق أوروبا عصرا اقتصاديا جديدا سيجلب للبريطانيين المزيد من الرخاء والرفاه.
لكن -كما يقال- الشيطان يكمن في التفاصيل، فما إن انتهت أجواء الاقتراع حتى اكتشف البريطانيون أن الأمور ليست بالبساطة التي يعتقدون.
وعلى الفور بدأت مفاوضات عسيرة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي حول كيفية وفاتورة الخروج.
وتشير الأرقام شبه الرسمية إلى أن بريطانيا ستدفع مقابل عملية الخروج فقط أربعين مليار دولار، بينما ستخسر فرصا استثمارية هائلة تكلفها خسائر أخرى بالمليارات.
وبعد مرور حوالي ثلاث سنوات على تنظيم الاستفتاء، يعيش المشهد السياسي فوضى عارمة ويخيم الشك على مستقبل المملكة المتحدة.
وكان من المفترض أن تكتمل عملية الخروج في 29 مارس/آذار 2019 لكن لندن طلبت مهلة جديدة لترتيب أوراقها الداخلية، في ظل خلافات عميقة بين الحكومة والمعارضة حول شروط وآليات الخروج.
وبعد أن تعمّق مأزق لندن تعالت الأصوات المطالبة بالعدول عن تطليق أوروبا، ونظمت مظاهرات حاشدة لحث الساسة على تنظيم استفتاء ثان.
وتشير استطلاعات الرأي إلى أن مدة الخروج الطويلة وما رافقها من تعقيدات أصاب البريطانيين باليأس، مما يعني أن العملية قد تلغى برمتها في حال إجراء استفتاء ثان وهو ما يطالب به الكثيرون.
2 – الصفقة المنتظرة
بعد وصوله للبيت الأبيض، أعلن الرئيس الأميركي قدرته على حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على نحو سريع، وكلّف صهره جاريد كوشنر بالملف الأكثر تعقيدا على مستوى العالم.
ورغم أنه لا علاقة لكوشنر بالشأن السياسي فإن ترامب لم يساوره شك في قدرته على إنجاز المهمة، معولا على علاقته الخاصة بالسعودية إذ يرى أن بإمكانها هي والإمارات حمل الفلسطينيين على القبول بخطته للسلام.
عام 2017 زار ترامب السعودية والفاتيكان ثم إسرائيل، وبدأ فعليا العمل على إتمام ما عرف بصفقة القرن والتي تتضمن إلغاء حق العودة وتأجيل التفاوض حول القدس وإقامة دولة فلسطينية على قطاع غزة وأجزاء فقط من الضفة، على أن تتكفل السعودية والإمارات بتقديم دعم مالي للدولة الجديدة.
لكن ترامب الوافد على السياسة كان ينظر للصراع ببساطة تلفزيون الواقع، فليس بإمكان الإمارات والسعودية حمل الفلسطينيين على التخلي عن حقوقهم.
وبدل إقناع حركات المقاومة بقبول هذه التسوية، أعلنت أطراف صديقة لأميركا رفضها لخطة السلام (صفقة القرن) وتحولت واشنطن إلى خصم لكل الفلسطينيين بعد أن كانت تمد حبال الوصل مع بعضهم.
وقد شددت السلطة الفلسطينية على رفض خطة كوشنر، وألقى رئيسها محمود عباس خطابات قوية ضد سياسة ترامب في الشرق الأوسط.
كذلك، أثار مشروع التسوية الأميركي الجديد غضب الأردن، إذ تجاهل ترامب كليا محورية عمّان في الصراع العربي الإسرائيلي، وكونها هي المعنية بموجب قرار أممي بالإشراف على المقدسات الإسلامية والمسيحية بالقدس المحتلة.
ورغم أن الأردن حليف قوي لأميركا فإن ملكها لم يتردد في رفض صفقة القرن جملة وتفصيلا.
وبعد مرور أكثر من عامين على تولي ترامب الرئاسة، لم يجرؤ كوشنر حتى على إطلاع الفلسطينيين على معالم خطة السلام الأميركية.
وباستثناء لقاءات مع الرئيس المصري ووليي العهد بالسعودية والإمارات، لم يتقدم صهر الرئيس الأميركي أي خطوة إلى الأمام باتجاه تسوية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
3 حائط ترامب
أثناء حملة انتخابات الرئاسية الأميركية، تعهد ترامب ببناء جدار على طول الحدود الجنوبية مع المكسيك، حتى يمنع المهاجرين من التدفق إلى الولايات المتحدة.
وقد شدد ترامب على أنه سيبدأ بناء الجدار فور تسلمه للسلطة، وصوت له العديد من الناخبين بناء على هذا الوعد الذي يتناغم مع توجهات المتشددين البيض الذين يعادون المهاجرين.
لكن الوافد على السياسة لم يكن يعلم أن الرئيس لا يمكنه وحده اتخاذ وتنفيذ قرار بهذا الحجم في دولة تحكمها المؤسسات، وتقوم على الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية.
وتشير التقديرات إلى أن حائط ترامب سيكلف الأميركيين عشرين مليار دولار، وما إن باشر ترامب مسؤولياته مطلع 2017 حتى أثار الموضوع جدلا قويا داخل مجلسي النواب والشيوخ.
وبالرغم من وضع العديد من الحواجز فإن الرئيس لم يتمكن من بناء مقطع واحد من الجدار الذي يبلغ طوله 3200 كيلومتر.
وفي يناير/كانون الثاني الماضي أعلن حالة الطوارئ الوطنية، وهو إجراء يمكن الرئيس من اقتطاع أموال من ميزانيات المؤسسات الفدرالية لبناء الجدار.
وبالفعل، اقتطع مليار دولار من ميزانية البنتاغون للبدء في الجدار، لكنه لا يكفي لبناء 5% من مساحة الجدار، وفي ذات الوقت أثارت الخطوة انتقاد وزارة الدفاع لكونها قد تلحق الأذى بقدرات الجيش.
4 – دحر الحوثيين
في سبتمبر/أيلول 2014 دخلت جماعة الحوثي صنعاء وسيطرت على المؤسسات الحكومية والقواعد العسكرية، ووضعت الرئيس عبد ربه منصور هادي تحت الإقامة الجبرية.
مطلع 2015 فرّ الرئيس هادي إلى عدن في ظروف غامضة، ولاحقا إلى العاصمة السعودية الرياض.
وبحلول فجر السادس من مارس/آذار، أعلنت السعودية عن إطلاق عملية عاصفة الحزم لردع الحوثيين وتمكين حكومة هادي من العودة سريعا إلى العاصمة صنعاء.
ضمت العملية عشر دول على الأقل وحظيت بدعم قوي من أميركا والغرب بشكل عام، وبدت مجرد معركة خاطفة لن تستمر سوى بضعة أيام أو أسابيع على أبعد تقدير.
وقد أعلنت السلطات السعودية حينها أن كلا من مصر والمغرب والأردن والسودان وباكستان تطوعت للمشاركة في عاصفة الحزم، بالإضافة إلى دول مجلس التعاون الخليجي باستثناء عُمان.
وجاء في البيان السعودي أن العملية “جاءت استجابة لطلب الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي لحماية اليمن وشعبه من عدوان المليشيات الحوثية التي كانت ولا تزال أداة في يد قوى خارجية لم تكف عن العبث بأمن واستقرار اليمن الشقيق”.
وأمام الدعم العربي والغربي، بدت السعودية في وضع مريح يمكنها من ردع إيران وتقليم نفوذها في اليمن ومنطقة الخليج.
وقد ازدحمت طائرات التحالف العربي في سماء صنعاء وصعدة والحديدة ومدن أخرى، وصبت الجحيم على المدارس والمستشفيات ومجالس العزاء وصالات الأفراح.
في عامي 2015 و2016، كانت القوات المدعومة من السعودية تعلن كل يوم أنها على أطراف صنعاء وأنه ليس أمام الحوثيين سوى خيار واحد هو الاستسلام.
خلال هذه الفترة احتلت مدينة المخا صدارة الأحداث، إذ شهدت معارك ضارية بين الحوثيين وقوات الشرعية المدعومة من التحالف العربي.
ولفترة طويلة، شددت السعودية على أن كسب معركة المخا يعني تلقائيا دخول صنعاء ودحر الحوثيين وخنق المشروع الإيراني في مضيق باب المندب.
ولئن كانت هذه القوات سيطرت عام 2017 على المخا فإن صنعاء ما تزال صعبة المنال، إذ دافع عنها الحوثيون بشراسة وتخلصوا من علي عبد الله صالح عندما بدا لهم أنه بصدد التنسيق مع الحوثيين.
وبعد مرور ما يزيد على أربعة أعوام على انطلاق عاصفة الحزم، ما يزال الحوثيون يتناولون القات في القصر الرئاسي بصنعاء ويرسلون الصواريخ إلى السعودية ويكبدونها الخسائر الفادحة في الأرواح والعتاد.
5 – الأزمة الخليجية
في الخامس من يونيو/حزيران 2017، أعلنت السعودية والإمارات والبحرين ومصر قطع علاقاتها الدبلوماسية مع قطر ومحاصرتها من البحر والجو والبر.
وعللت دول الحصار الخطوة المفاجئة بأن قطر ترعى وتمول الإرهاب، في وقت رفضت الدوحة هذه التهمة بشدة. واتهمت خصومها بالسعي لتغيير النظام في قطر.
في البداية، عولت دول الحصار على دعم الرئيس الأميركي، وبدت واثقة من فرض 13 مطلبا على قطر بينها إغلاق قناة الجزيرة ومقاطعة إيران وتسليم الشيخ يوسف القرضاوي.
وأمام الضغط الاقتصادي والسياسي الهائل سوّق إعلام الحصار لمواطنيه حتمية استسلام قطر، وأن البديل هو تغيير النظام واستبداله بآخر يتناغم مع السعودية والإمارات في نظرتهما للقضايا العربية والإقليمية.
لكن الدوحة رفضت كل المطالب الـ13، وأكدت أن السيادة خط أحمر لا يمكن التنازل عنه تحت أي ظرف، في الوقت الذي تفاعلت بإيجابية مع الوساطة الكويتية الساعية لحل الأزمة.
وعلى نحو سريع تغير الموقف الأميركي من الانحياز للمحاصِرين إلى الحياد، ودعت واشنطن الأطراف أكثر من مرة لحل الأزمة عبر الحوار وأكدت على أهمية علاقاتها بالدوحة.
وبعد مرور حوالي عامين على اندلاعها ما تزال الأزمة الخليجية تراوح مكانها، ولم يعد واردا الحديث عن إذعان الدوحة للضغوط فيما لا تبدو دول الحصار مستعدة للتراجع عن مطالبها، مما يعني أن الأزمة في وضع السكون وقد تطول إلى أمد بعيد.
المصدر : الجزيرة