فتح صعود الصين وروسيا، وغيرهما من الدول التي تتبنى الرأسمالية نهجا اقتصاديا، والحكم الفردي، أو الشمولي، نظاما سياسيا، فتح الباب واسعا أمام نقاشاتٍ تتناول علاقة الرأسمالية بالديموقراطية، وما إذا كانت الثانية مرتبطةً حكمًا بالأولى، أو شرطا ضروريا لقيامها واستمرارها. وقد اشتعل هذا الجدل بحدّة أكبر، بعد ترشيح الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الأسبوع الماضي، ستيفن مور، لعضوية مجلس محافظي الفيدرالي الأميركي (البنك المركزي). ويعد مور، وهو عضو سابق في مجلس إدارة صحيفة وول ستريت جورنال، ويعمل حاليا في “هيريتيج فاونديشن” (مركز بحثي أميركي محافظ) من الشخصيات الجدلية في أميركا بسبب مواقفه المعادية للديموقراطية. وقد دفعت خطوة ترشيح ترامب له لهذا المنصب الاقتصادي الحساس بعضهم إلى القول إن العالم يتجه أكثر نحو الرأسمالية، وأقل نحو الديموقراطية، فيما اغتنم بعض “غلاة” اليسار فرصة ترشّحه للقول بوجود تناقض جوهري بين الرأسمالية والديموقراطية الليبرالية.
الرأسمالية، بحسب هؤلاء، هي نظام اقتصادي تكون فيه ملكية كل وسائل الإنتاج أو أكثرها فردية، وتهدف إلى تحقيق الربح في ظروفٍ تنافسية، تؤدي، بمرور الوقت، إلى تركز الثروة وظهور الشركات الكبرى واستئثارها بالسيطرة، علما أن القرن الحادي والعشرين شهد تحولاتٍ كبيرةً على صعيد الممارسات الرأسمالية، فتحت الباب أمام ظهور سيطرة حكومية أكبر، لا بل تحولت الحكومة نفسها إلى فاعل اقتصادي يعمل وفق قوانين السوق في دول عديدة، في مقدمتها الصين. أما الديموقراطية فهي نظام سياسي يتمحور حول فكرة توزيع القوة السياسية بالتساوي بين الأفراد، بمعنى أن كل فرد يتمتع بالقوة نفسها، أي يمتلك صوتا واحدا يعبر من خلاله عن رأيه ومصالحه. يضع هذا التعريف الديموقراطية على طرف نقيض مع الرأسمالية التي تنفي فكرة التساوي، وتقوم على تركيز القوة الاقتصادية بيد القلة، ويكون فيها البقاء للأقدر على الاستمرار والمنافسة. من هذا الباب، يذهب بعض مفكري اليسار إلى تصنيف الرأسمالية، مع الفاشية والنازية والسلطوية والعسكرتارية، باعتبارها تيارا فكريا معاديا في جوهره للديموقراطية، ويأخذون على الرأسمالية الأميركية أنها نشأت أصلا في ظل نظام العبودية الذي ساد خلال القرنين، الثامن عشر والتاسع عشر، خصوصا في ولايات الجنوب.
وتزداد الفجوة بين الديموقراطية والرأسمالية مع ازدياد عدم المساواة في توزيع الثروة داخل المجتمعات، لا بل أصبح تركز الثروات يشكل خطرا على الممارسات الديموقراطية في المجتمعات الأكثر تمثلا ورسوخا فيها، مثل أوروبا الغربية والولايات المتحدة؛ فمن جهةٍ يزداد عجز الحكومات المنتخبة عن معالجة المشكلات الاقتصادية التي تزداد تعقيدا بسبب الممارسات الرأسمالية والتطور التقني، وتتقلص قدرتها على توفير الموارد اللازمة للاستمرار في توفير الخدمات، بصورة مستدامة وبسوية معقولة للفئات الأقل دخلا في المجتمع. من جهة أخرى، يتنامى دور المال السياسي في تقرير نتائج الانتخابات، ويزداد التطابق بين حيازة الثروة والسلطة، وهو الأمر الذي بلغ أعلى درجات تمثّله، بوصول تاجر العقارات الثري، ترامب، إلى منصب رئيس الولايات المتحدة. ويتوقع أن يستمر تأثير ترامب الذي لا يُخفي إعجابه بالنظم العسكرية والتسلطية، في النظام السياسي الأميركي إلى ما بعد انتهاء رئاسته، من خلال شغله بعض المناصب المهمة بموظفين لا يخفون احتقارهم الديموقراطية، ومنهم سالف الذكر، مور.
وقد أثار مور حفيظة كثيرين بقوله في مقابلة تلفزيونية إن “الرأسمالية أهم بكثير من الديموقراطية، وإنه فيما لو طلب منه أن يختار بين الاثنتين لما تردد في اختيار الأولى”. وشبّه مور علاقة الديمقراطية بالرأسمالية “بذئبين يتناقشان مع خروف حول ما يمكن تحضيره للعشاء”. ورأى أن السعودية لا يمكن أن تكون في حال اقتصادي أفضل، لو أنها أصبحت دولة ديموقراطية”. ماذا يعني هذا كله؟ هذا يعني أن تحولا فكريا وأيديولوجيا كبيرا يطرأ على العلاقة التاريخية بين الرأسمالية والديموقراطية، وأن الرأسمالية، بعد تبنّيها من أعتى الأنظمة الشمولية (الصين وروسيا)، تقترب لتصبح أكثر تصالحا مع النظام السياسي الأقرب إليها منطقيا، أي نحو تركيز السلطة الاقتصادية بيد القلة السياسية التي تحكم في النظم الشمولية.
العربي الجديد