صحيح أن أمريكا تحاول لأول مرة في تاريخها منع إيران من تصدير النفط الذي يشكل حوالي 44٪ من دخلها القومي، إلا أن إيران تتعرض للعقوبات الأمريكية والغربية عموماً منذ وصول الخميني إلى السلطة عام 1979. وقد تعايشت إيران مع تلك العقوبات طوال تلك الفترة، لا بل إنها بنت قوتها العسكرية والنووية والاقتصادية في ظل العقوبات. وقد نجحت في التغلغل بالمنطقة والاستحواذ على أربع عواصم عربية وهي تحت العقوبات، فماذا كانت ستفعل أكثر من ذلك يا ترى لو لم تكن محاصرة أمريكياً وغربياً بالضغوط والعقوبات الاقتصادية؟ بعبارة أخرى، لم تنجح العقوبات يوماً في لي الذراع الإيراني، بل جعلته أشد عوداً وأقوى شكيمة، إما بسبب العزيمة الإيرانية أو بالأحرى لأن أمريكا لا تريد اصلاً تركيع إيران.
والسؤال الأكثر أهمية ونحن نتحدث عن الضغوط الأمريكية على إيران، هل كانت أمريكا عازمة في يوم من الأيام على إسقاط النظام الإيراني أو إضعافه فعلاً؟ أم إن ما قدمته أمريكا لإيران على الأرض أكبر بكثير من تأثير العقوبات.
قد يقول البعض إن الإدارة الأمريكية الحالية عازمة على تقليم أظافر العملاق الإيراني هذه المرة وتحريض الداخل على الملالي وإجهاض أحلامهم التوسعية وترويضهم. ويرى البعض أيضاً أن كل رئيس أمريكي يأتي بمشروع يختلف عن الذي سبقه، والمشروع الترامبي هذه المرة ذبح إيران، لكن الوقائع الجيوسياسية والاقتصادية والعسكرية والسياسية تعارض هذا التحليل، فإيران اتفقت معها أو اختلفت ليست جمهورية موز، بل هي قوة إقليمية عظمى لها مشروعها الذي استطاعت أن تنقله عسكرياً ومذهبياً إلى العراق وسوريا ولبنان واليمن، ولا نرى أي مؤشرات على أن المشروع الإيراني في المنطقة سيتراجع أو سيضعف رغم كل الخزعبلات الأمريكية. والسؤال الآخر: هل تصدقون أن أمريكا وإسرائيل تريدان فعلاً طرد إيران من سوريا مثلاً؟ من الذي سمح لها أصلاً بابتلاع العراق وسوريا ولبنان والتدخل في اليمن على حدود الحليفة العربية الأولى للأمريكان في المنطقة ونقصد السعودية؟ أليس الأمريكيين أنفسهم؟ ألا يتقدم حلفاء إيران على الأرض في اليمن بينما فشلت المليارات التي دفعتها السعودية في اليمن لدحر الحوثيين؟ هل تتصورون أن إسرائيل يمكن أن تقضي على ذراع إيران الأول في لبنان وهو حزب الله؟ ألم تفشل إسرائيل في مواجهة حركة حماس التي لا تمتلك خمسة بالمائة مما يمتلكه حزب الله من صواريخ يمكن أن تطال هذه المرة كل المدن الإسرائيلية وليس حيفا وما بعد حيفا؟
إن الديمقراطيين يمكن أن يعيدوا العمل بالاتفاق النووي بين إيران والغرب الذي ألغاه ترامب، ويمكن أن تعود المياه إلى مجاريها وأكثر بين الأمريكيين والإيرانيين في قادم الشهور
من السخف القول إن أمريكا هي التي مكنت إيران من رقبة العراق مثلاً. لا شك أن الإيرانيين والأمريكيين لعبوا معاً على الأرض العراقية ونسقوا مواقفهم وتقاسموا النفوذ، لكن لماذا لم تتقاسم أمريكا النفوذ في العراق مثلاً مع العرب كالسعودية؟
الجواب بسيط، لأن إيران أقوى على الأرض في العراق مذهبياً من السعودية، وهي أكثر قدرة على تنظيم أنصارها واستخدامهم واستغلالهم في مشروعها من السعودية التي لم تدخل أي بلد عربي إلا وأصبح حلفاؤها فيه مهزلة كما في لبنان وغيره. وبالتالي، فإن أمريكا لم تجد لها شريكاً في العراق أفضل من الإيرانيين بسبب نفوذهم المذهبي وقوتهم التنظيمية والسياسية مقارنة مع الأقزام العرب.
لهذا يجب ألا يفرح خصوم إيران من العرب بالضغوط الأمريكية على إيران، ومن السخف أيضاً أن يعتقدوا أن واشنطن تحاصر إيران وتضغط عليها من أجل عيون محمد بن سلمان.
هذه قمة السخف والصبيانية السياسية. فقد علمتنا التجارب أن أمريكا تحترم الأقوياء حتى لو كانوا خصومها وتحتقر الضعفاء حتى لو كانوا حلفاءها كالسعودية مثلاً.
ولو تحدثت إلى الديمقراطيين في أمريكا لسمعت لهجة مختلفة تماماً عن العلاقات المستقبلية بين أمريكا وإيران، حيث يرى كبار الباحثين والمطلعين الأمريكيين أن الضغوط والعقوبات التي يفرضها ترمب على إيران هي عقوبات تكتيكية مرحلية وليست استراتيجية، وأن كل الإجراءات التي اتخذتها إدارة ترامب ضد إيران يمكن أن يقلبها الديمقراطيون رأساً على عقب عندما يعودون إلى البيت الأبيض قريباً.
وقد قال باحثون كبار إن الديمقراطيين يمكن أن يعيدوا العمل بالاتفاق النووي بين إيران والغرب الذي ألغاه ترامب، ويمكن أن تعود المياه إلى مجاريها وأكثر بين الأمريكيين والإيرانيين في قادم الشهور فيما لو فاز الحزب الديمقراطي بالانتخابات الرئاسية القادمة في أمريكا. لماذا؟ لأن إيران بالنسبة للدولة العميقة في أمريكا ذخر استراتيجي ومنافعه أكبر بكثير من أضراره.
القدس العربي