إضافة إلى الحاجة إلى التغيير (والتسلية) التي قد تدفع شعوب الأرض لاختيار ممثلين من خارج المؤسسات الحزبية الاعتيادية، سواء كانوا إشكاليين سياسيا، كما هو حال جايير بولسونارو، رئيس البرازيل الأخير، ورودريغو دويرتو، رئيس الفلبين الغريب الأطوار، فقد تفاقمت ظاهرة انتخاب زعماء قادمين من حقول التلفزيون والتمثيل، كما هو حال الرئيس الأوكراني الجديد فلاديمير زيلينسكي، وكذلك من حقول تجمع بين المال والتلفزيون والرياضة كما كان حال الإيطالي سيلفيو برلسكوني، غير أن «القفزة الكبرى» جاءت عمليا مع انتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي له في كل هذه المجالات نصيب كبير من الشهرة والحظ… والفضائح.
لم يكتف ترامب بجعل «خبرته» في المال والتلفزيون (وعلاقاته بالرياضة ومسابقات الجمال واليمين العنصري المتطرف) أسلوباً في العمل بل أضاف على ذلك اتجاها واضحا في سياساته يعتبر أن القضايا السياسية الشائكة هي قضايا يمكن حلّها بالمال (كما فعل مثلا مع نجمة الإثارة الجنسية المدعوة ستورمي دانيلز)، وهو أمر لقي هوى سريعاً لدى بعض الدول العربية فسارع بعضها إلى استئجار أجنحة في برج ترامب العالمي في نيويورك، وكان بعضها الآخر أكثر حماساً، كما فعلت السعودية التي دعته إلى مؤتمر مشهود فباعته (أو ادعى أنها باعته) زعم أنها ستبرم مع بلاده «صفقات» بقيمة 450 مليار دولار، واشترت منه، حينها، موافقة مبدئية على حصار قطر.
تبيّن لاحقاً أن مزاعم السعودية غير صحيحة وأن ترامب هو الذي باع الأمريكيين هذه القصّة لأن الطرفين، البيت الأبيض من جهة، ومحور «الرياض ـ أبو ظبي ـ القاهرة»، متفقان سياسياً على تمرير «صفقة» أكبر، تتعلّق أساساً بالقضية الفلسطينية (وإسرائيل)، وذلك بتخطيط من زوج ابنته جاريد كوشنر، الذي هو أيضا تاجر عقارات كبير، وبالتالي فإن القاسم المشترك في هذه «التجارة» السياسية الكبرى هو فكرة استيلاء هذا الحلف السياسي المالي على «عقار» رمزيّ هائل تمثله فلسطين (والقدس) وأن يكون السلاح في ذلك ماليّا باتجاهين: التضييق الهائل على الفلسطينيين ومؤسساتهم (وكذلك المؤسسات الأممية)، والوعد بـ«مال وفير» يتبرع به حلفاء أمريكا (وإسرائيل) العرب إذا قبل الفلسطينيون تلك «الصفقة» النكراء.
واضح أن دول «الحلفاء» و«المحور» يعتبرون السيطرة على فلسطين والفلسطينيين «جائزة» كبرى ولكنّ طموحات أصحاب «الصفقة»، كما هو واضح، تتجاوز المسألة الفلسطينية، بدليل أنها بدأت مع حصار قطر، وأن الجائزة التي يتطلعون إليها هي السيطرة على العالم العربي، وبحجم الوعود الكاذبة التي يقوم بها الأمريكيون والإسرائيليون وحلفاؤهم العرب حول أنهار الحليب والعسل التي سيسبح فيها الفلسطينيون، تجري الوعود حول «الاستقرار» و«الأمن» وانتهاء «الفوضى» في المنظومة العربية لو تمكّن هؤلاء «التجار» من تسيير الشؤون العربية كما يشتهون.
وبعد أن ظنّ هؤلاء أن الأمور تمشي لصالحهم بعد أن قاموا بإفشال الثورة السورية، وتحويل الاحتجاجات السلمية العراقية إلى تنظيم «الدولة»، وأغرقوا اليمن وليبيا بالدم، فقد فوجئوا بسيل الجماهير السودانية والجزائرية في الشوارع تطالب بتغيير ديمقراطي ومدني للنظامين، فعادوا مجددا إلى دبلوماسية «حقائب المال» لعلهم يفسدون ما يمكن إفساده.
المشكلة الوحيدة التي تواجه «تجار» السياسة هي أن البشر هم بشر وأنهم لهذا السبب بالذات لا يستطيعون العيش من دون حرّية وكرامة وأن شراء القيادات لا يحلّ مشاكل التنمية والعدالة بل يؤجّل الانفجار فحسب.
القدس العربي