من الممكن أن يجد كثيرون أدلةً على تدهور القوة الأميركية، وانسحابها عن العالم، بما تثيره من خلافات مع حلفائها، وما تعلنه عن انسحابات من مناطق مهمة، ومن معاهدات واتفاقيات لا تقل أهمية. لن يختلف أحد على أن أميركا دونالد ترمب، ليست أميركا باراك أوباما، أو جورج بوش الابن، أو بيل كلينتون. ومع ذلك فإن الوجود الأميركي الكثيف في العالم لم يتغير كثيراً بفضل القوة الناعمة الأميركية، التي تبدأ باللغة الإنجليزية، التي هي اللغة العالمية الأولى، وليس فقط في الاستخدامات المختلفة لها على المستوى العالمي، حيث تراضت الدنيا كلها على استخدامها وسيلة للتواصل، عندما تعزّ كل وسائل التواصل الأخرى. والقوة الناعمة لن تنتهي باللغة، وإنما تمتد إلى الشركات الأميركية متعددة الجنسيات، بما فيها تلك التي تقدم خدمات الإصلاح والتقدم لدول العالم المختلفة. أما في الفنون والآداب فإن فيها الكثير من المدفعية الأميركية الثقيلة.
وإذا كانت شركات مثل «آبل» و«أمازون» قد فاقت قيمتها تريليون دولار. وهناك على الطريق شركات أخرى مماثلة، فإن كل ذلك لا يعني قيمة اقتصادية فقط، وإنما قوة ناعمة تبشر بالمهارة والقدرة الأميركية على تغيير العالم والبشرية. وإذا كان كل ذلك يؤشر على دور القوة الناعمة في النفوذ والقدرة الأميركية في عالم تنسحب منه الولايات المتحدة، فلعله يعطينا مؤشراً آخر على أهمية القوة الناعمة بالنسبة للعالم العربي، في زمن تراجعت فيه بشدة سمعة الدول العربية والإسلامية في العالم، لأسباب متعددة، يأتي في مقدمتها الإرهاب والتطرف، وما نتج عن موجات ما سمي بالربيع العربي، من لاجئين ومهاجرين، وما ذاع عن بلادنا من عدم الاستقرار وعداء للغرب والبعد عن القيم الإنسانية. وقديماً، فإن الدارسين للصورة العربية في الغرب، مثل الدكتور بهجت قرني في الجامعة الأميركية في القاهرة، وجدوها تتراوح ما بين التخلف ورجل البازار أو السوق الشرقية والبدوي الشرس والراقصة الشرقية والملياردير والإرهابي.
وخلال الفترة الأخيرة، ونقصد بها فترة ما بعد ما سمي الربيع العربي، ثم بدء مرحلة من الإصلاحات الداخلية في الكثير من الدول العربية، خاصة المملكة العربية السعودية، ظهرت بقوة من خلال الرسائل اليومية التي ترسلها السفارات السعودية هذه الرسائل، والتي قد تتكرر أكثر من مرة في اليوم الواحد، ولا تكتفي بأخبار التطورات الاقتصادية المهمة، مثل التحضير لتصدير الغاز، أو تحقيق فائض في الميزانية، أو وضع شركة «أرامكو» على الطريق، أو التطورات الاستراتيجية الخاصة بما يحدث في اليمن، أو ما تقوم به إيران من تحركات، وإنما فيها قدر كبير من تطورات مثيرة جارية في القوة الناعمة السعودية. فالملاحظ هو أن المملكة تعيد اكتشاف نفسها من جديد، وترفع الرمال عن الآثار القديمة، وتهيئها لمشاهدة المواطنين والسائحين، وهي التي مرت عبر عصور كثيرة سابقة على الفترة الإسلامية وبعدها. ولا يكاد يمر يوم واحد دون تطور ما يتعلق بمعارض الكتب أو الحفلات الموسيقية والغنائية والمهرجانات التاريخية المختلفة في مناطق الدولة المتعددة. باختصار، فإن هناك عمليات إحياء كبيرة للتراث السعودي القديم والحديث، وإتاحته على منصات كثيرة للنشر والتوزيع؛ وكل ذلك مضاف إلى الحرمين الشريفين، اللذين يقعان على قمة القوة الناعمة السعودية وتأثيرها على العالم الإسلامي شرقاً وغرباً. وفي الحقيقة، فإن ما يجري في المملكة الآن هناك خطوط موازية له في دولة الإمارات، التي تركز كثيراً على القوة الناعمة المرتبطة بالتكنولوجيا والتقدم بصورة عامة. والحقيقة الأخرى أن العالم العربي كله يذخر بتراث تاريخي عريض وعميق حيث كان من ناحية ناصية العالم القديم بعصوره المختلفة؛ السومرية والفرعونية والفينيقية واليونانية والرومانية والنبطية والعربية الإسلامية، وإليه تنظر الدول والأمم التي ارتبطت بالديانات السماوية وحركتها، عبر المناطق الجغرافية والقارات المختلفة.
ورغم أن اللغة العربية تعتبر من قبل الأمم المتحدة واحدة من لغات العالم الرئيسية، فالحقيقة أن المتحدثين بالعربية هم القاطنون في العالم العربي، وعددهم 350 مليون نسمة (أكثر قليلاً من الولايات المتحدة)، ويقعون على مساحة تتجاوز 9 آلاف كيلومتر مربع (تماثل تقريباً الولايات المتحدة)، وهؤلاء في حد ذاتهم يشكلون سوقاً ثقافية واسعة، كما أن كثيراً من مخزون ثقافتهم وتاريخهم لم يكن باللغة العربية بالضرورة. المسألة المطروحة هنا أن كثيراً من موارد القوة الناعمة العربية تحتاج إلى تعبئة وتنظيم وتسويق واستخدام، وأن تكون النظرة إليها مرتبطة بالإقليم العربي، باعتباره سوقاً ثقافية واحدة. وبغض النظر عن الخلافات العربية، والحدود العربية، والمنافسات العربية الكبيرة والصغيرة، فإن الحقيقة الماثلة هي أن اللغة الواحدة في ظل التكنولوجيات الحديثة قد خلقت تفاعلات لا تختلف في اتفاقها واختلافها عن تلك الواقعة داخل الوطن الواحد. وبمراقبة الوسائل المختلفة للتواصل الاجتماعي، سوف نجد مداخلات من الدول العربية المختلفة، ربما يزيد ذلك فيما يتعلق بمباريات كرة القدم، أو الفنون والآداب المختلفة، وربما يستعر في الأمور السياسية، إلا أن الأمر في النهاية هو أن التفاعلات تجري، وهي لا تقتصر فقط على المواطنين العرب في الدول العربية، ولكنها تمتد إلى المواطنين العرب في مشارق الأرض ومغاربها.
موارد القوة الناعمة، والطاقة المتولدة من التفاعلات الداخلية والخارجية الجارية بشأنها، يمكن أن تتولد عنها إشعاعات حضارية كثيرة إلى العالم الخارجي، تقوم أولاً على أن العرب ليسوا هم البرابرة الذين يتصورهم أعداؤهم في الخارج، بل هم من المشاركين في الحضارة العالمية المعاصرة ومن وضعوا لبناتها الأولى. وثانياً أن العرب لديهم الآن قصة تُروى في الإصلاح والتغيير السلمي وإعادة بناء الدولة الوطنية ودعم قواعدها الاقتصادية والاجتماعية. وثالثاً أنه بعد فترة من الاضطراب والخلخلة والتدمير فإن المرحلة العربية القادمة هي مرحلة للبناء والتعمير؛ وفي بعض الدول العربية فإن هذه المرحلة لا تختلف عن مراحل مشابهة، عاشتها أوروبا في أعقاب حربين عالميتين، والولايات المتحدة في أعقاب الحرب الأهلية، وروسيا والصين في أعقاب الثورتين البلشفية والماوية، وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي ووفاة ماو تسي تونغ. ورابعاً أن الإصلاح العربي الحالي في عدد من الدول العربية لا يستعيد فقط الدولة الوطنية ويصلح اقتصادها، وإنما هو في نفس الوقت يستعيد الصورة المضيئة للدين الإسلامي، وما للعرب من مصداقية، بحكم أن لغتهم هي لغة القرآن، فإنهم يقفون بما لديهم من علم وفقه في مقدمة المقاومة في العالم للإرهاب والتطرف. وخامساً أن العرب ليسوا استثناء خاصاً بين دول العالم في تطورهم وتقدمهم، وما يحدث لديهم لم يكن غائباً عن تجارب دول العالم الأخرى التي تفاوتت فيها سرعات التقدم والتغيير.
ربما آن الأوان لتفعيل هذه القوة الناعمة العربية، إما من خلال المؤسسات القائمة لها في الجامعة العربية، وإما من خلال البدء في مؤسسات جديدة قد تكون أكثر حيوية وفاعلية تعتمد على ما يُرى حالياً في الدول العربية.