حكم ما أسميناه باللعبة المزدوجة سلوك كلا من الولايات المتحدة وإيران فيما يتعلق بالعراق، كما حددت هذه اللعبة سلوك صانع القرار العراقي ايضا تجاه العلاقة مع كل منهما!
فقد مارس الأمريكيون هذه اللعبة مضطرين، لعلمهم أن الفاعلين السياسيين الشيعة، الذين انضموا إليهم قبل الحرب، وتم وضعهم في مجلس الحكم، لهم علاقاتهم الاستراتيجية مع إيران، وهي علاقات لا يمكن زعزعتها او التدخل فيها باي شكل؛ فقد اقتنع الأمريكيون حينها، تحديدا بعد ظهور مؤشرات على وجود مقاومة «سنية» آخذة بالتصاعد، أنه ليس من مصلحتهم الدخول في مواجهة مع الفاعل السياسي الشيعي بشأن هذه العلاقة مع إيران، كما كان الأمريكيون عقلانيين في التعاطي مع «التدخلات» الإيرانية «التكتيكية» في العراق والتي تدعم الفاعل الشيعي المعارض بالسلاح للوجود الأمريكي. مع هذا كان ثمة خطاب أمريكي معلن عن عدم السماح لإيران بالتدخل في العراق!
في المقابل حسم الإيرانيون أمرهم حين مارسوا لعبة مزدوجة مضادة في العراق، حيث حرصوا، استراتيجيا، على انتاج كتلة صلدة تتيح للفاعلين السياسيين الشيعة المختلفين، الهيمنة على الدولة في العراق، وحرصوا ايضا على دعم هذه الكتلة بقوة من اجل ضمان مصالحهم على المدى البعيد، وتكتيكيا، دعمت إيران القوى الشيعية المناهضة للاحتلال عبر دعمها للمجموعات الشيعية الرافضة للاحتلال الأمريكي، بشكل خاص جيش المهدي، الذي تشكل بداية الاحتلال، أو المجموعات التي انشقت عنه لاحقا.
وكانت اللحظة الأكثر رمزية في هذه اللعبة المزدوجة، التي مارسها الطرفان الأمريكي والإيراني، هي اتفاقهما على تأييد الولاية الثانية لرئيس مجلس الوزراء نوري المالكي في العام 2010.
بعد دخول داعش إلى الموصل، استمر التعاطي الأمريكي والإيراني كلاهما باللعبة المزدوجة نفسها، وبدا الفاعل السياسي الشيعي، القابض على السلطة في العراق، منسجما تماما مع هذا التعاطي! وقد حرص الأمريكيون على إبعاد إيران عن التحالف الدولي الذي أنشأته الولايات المتحدة لمواجهة داعش، مع ادراكهم جيدا بان الدور الإيراني في هذه المواجهة اخذ شكلا تصاعديا، مع تحول الجماعات المسلحة التابعة لها في العراق إلى قوة حقيقية عبر إنشاء هيئة الحشد الشعبي التي استخدمت فتوى السيد السيستاني لإضفاء الشرعية على نشاطها على الارض رغم وجودهم الذي كان سابقا لهذه الفتوى.
وعلى الأرض ايضا كان الأمريكيون يغضون الطرف عن تسليح هذه الجماعات بالأسلحة الأمريكية، بما فيها صواريخ حرارية من طراز أي تي ـ 4 المضادة للدروع لمواجهة السيارات المفخخة المحصنة التي يستخدمها داعش! وقد صمتوا تماما ايضا عن الانتهاكات التي تقوم بها هذه المجموعات، والتي وصفها تقرير لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة في مرحلة مبكرة بانها جرائم ضد الإنسانية ترقى إلى ان تكون جرائم حرب! بل إن الأمريكيين وفروا غطاء جويا للحشد الشعبي في الكثير من المعارك! وظلت المحاولات الأمريكية في إطار «تخفيف الحساسيات» من مشاركة الحشد الشعبي في بعض المناطق، أكثر منه موقفا رافضا لها. لقد كان تلاقي الأسلحة الأمريكية والإيرانية في تسليح الحشد الشعبي دلالة رمزية مكثفة على طبيعة التواطؤ الصريح بين الطرفين! بل إن الأمريكيين كانوا يتحدثون صراحة عن تمييزهم بين «فصائل» جيدة، وفصائل «سيئة»، كما كانوا يتحدثون عن ثقتهم الكاملة في قدرة العبادي على التعاطي معها!
لن تسمح الولايات المتحدة بأن يتحول العراق إلى حصان طروادة ضد عقوباتها الصارمة تجاه إيران، أو أن تسمح لإيران بأن تستخدم أدواتها في العراق لتهديد القوات الأمريكية، او المصالح الأمريكية في العراق
اليوم، وبعد القرارات الأمريكية الأحادية المتتالية ضد إيران، بداية من الانسحاب من الاتفاق النووي، ثم محاولات تصفير صادرات النفط الإيرانية، وإعلان الحرس الثوري منظمة إرهابية، وأخيرا العقوبات بحق صادرات إيران من المعادن، مع تحركات عسكرية في الخليج العربي تعيد إلى الذاكرة التحشيد الأمريكي الذي بدأ قبيل حربي 1991 و2003، يبدو وضحا ان الولايات المتحدة، وربما ترامب شخصيا، قررت استخدام أوراق الضغط في المواجهة إلى حدها الأقصى، وهو ما عكسته التصريحات التي صدرت عن واشنطن هذه الأيام، وإن كان الجميع يعلم أنه ليس هناك قرار بالحرب!
إن هذا التطور، سيفرض على الطرفين المشتبكين الآخرين: العراق وإيران، مواقف جديدة تختلف عن المواقف التي اعتمدتها خلال السنوات الست عشرة الماضية؛ فصانع القرار السياسي العراقي الذي تأقلم مع الازدواجية الأمريكيه تجاه التدخل الإيراني في العراق، مطالب اليوم بتحديد موقفه الصريح من هذه المواجهة، إذا ما أراد أن يبقي على الدعم الأمريكي الضروري للعراق أمنيا وسياسيا واقتصاديا! بالمقابل ستقوم إيران باستخدام كل ادواتها في العراق لمنع أي محاولة لإخراج العراق من العباءة الإيرانية وإعادة موضعته في سياق المواجهة القائمة. خاصة وان نتائج المواجهة مع داعش، ونتائج الانتخابات الاخيرة، قد فرضت واقعا جديدا جعل إيران تفترض أن تغولها في العراق أصبح أمرا واقعا لا يمكن تخطيه
حتى هذه اللحظة، استطاعت الحكومة العراقية التعامل مع ملف العقوبات الأمريكية على إيران، من خلال إقناع الولايات المتحدة بأن التشابك الشديد بين المصالح الاقتصادية العراقية والإيرانية. تحديدا في ملف الغاز، إذ يعد العراق ثاني أكبر مستورد للغاز الإيراني، وتعتمد محطات انتاج الكهرباء الغازية في العراق، التي تنتج ما يقرب من 47٪ من الكهرباء، اعتمادا كبيرا على الغاز الإيراني، وهذا يعني ان أي التزام بالعقوبات الأمريكية سيؤدي إلى حرمان العراق من نصف انتاجه من الكهرباء تقريبا! كما أنه ليس من السهل شطب التبادل التجاري الكبير والذي يصل إلى ما يقرب من 7 مليارات دولار سنويا، فضلا عن الأرقام غير المعلنة المتعلقة بتجارة السلاح والعتاد بين البلدين! بقرار سياسي فوري، وقد استطاعت بالفعل الحصول على استثناءات مؤقتة لهذا الشأن. ولكن الولايات المتحدة تراقب الزيارات المتبادلة عالية المستوى بين طهران وبغداد، كما تراقب أيضا الخطابات التي تردها من العاصمتين حول «تطوير» العلاقة بينهما! ففي زيارة رئيس الجمهورية برهم صالح الاخيرة إلى طهران، تحدث عن الحاجة إلى «نظام جديد في المنطقة يلبي مصالح جميع الدول فيه» وان إيران لديها «دور مهم» لتلعبه في هذا النظام! فيما تحدث الرئيس روحاني عن تعزيز التجارة بين البلدين لتصل إلى 20 مليار دولار. وقد أكد رئيس مجلس الوزراء عادل عبد المهدي بان العراق لن يلتزم بالعقوبات على إيران على اعتبار انها عقوبات غير اممية! كما تحدث لدى زيارته لطهران عن الوقوف سوية «ضد أي تهديد يأتي ضد أي من البلدين»! وعن تطوير العلاقة بين العراق وإيران لتكون «قدوة لعلاقات متطورة بين دول المنطقة والعراق»! وفي المقابل تحدث روحاني عن زيادة صادرات الغاز والكهرباء إلى العراق فضلا عن ربط سكك الحديد بين البلدين وانشاء ثلاثة مدن صناعية مشتركة!
يبدو إذا من السذاجة التفكير بأن العراق بإمكانه التعاطي مع العقوبات الأمريكية ضد إيران، كما يبدو من السذاجة التفكير في أن الولايات المتحدة قد تلجأ إلى فرض عقوبات على العراق بسبب ذلك! ولكن بالتأكيد لن تسمح الولايات المتحدة بأن يتحول العراق إلى حصان طروادة ضد عقوباتها الصارمة تجاه إيران، أو أن تسمح لإيران بأن تستخدم أدواتها في العراق لتهديد القوات الأمريكية، او المصالح الأمريكية في العراق. وقد أبلغ وزير الخارجية الأمريكية في زيارته الأخيرة هذا الموقف لبغداد بوضوح. ولكن العراق سيضطر عاجلا ام آجلا إلى اتخاذ خطوات اضطرارية قد يفسرها أي من الطرفين المتشابكين، بأنها تعكس موقفا ضدها، مع كل ما يترتب على ذلك من تداعيات سياسية! فتصفير صادرات النفط الإيراني، مثالا، قد تضطر العراق إلى زيارة صادراته النفطية لتعويض نقص النفط الإيراني من الأسواق العالمية، وهذا قد تفسره إيران على أنه موقف مضاد منها! في المقابل فان امتناع العراق عن زيادة صادراته، مع عجز دول الخليج عن تعويض هذا النقص، قد يؤدي إلى رفع أسعار النفط عالميا، وهذا الموقف يمكن أن يفسر أمريكيا بانه موقف مضاد منها!
إن الإنشاءات اللغوية التي نسمعها من بغداد، والمواقف المتضاربة إنما تعكس المعضلة الحقيقية التي يواجهها صانع القرار في العراق، والتي لن تتيح له سوى البقاء في هامش المناورة بانتظار متغير ما!
القدس العربي