تتأمل الكثير من القوى السياسية العربية المعارضة للهيمنة الإيرانية في الشرق الأوسط، أن تكون العقوبات الأمريكية الأخيرة، هي القاصمة لظهرها، وأن تمهد السبيل لطردها، أو رفع يدها عن العراق وسوريا ولبنان وحتى اليمن، لكن التمنيات شيء وواقع توازنات القوى في المنطقة شيء آخر، فعلى ما يبدو، إن لم تقصم هذه العقوبات ظهر إيران، وهي في الغالب لن تفعل، فإنها ستقويها، فهي بمثابة الفرصة الأخيرة لإضعاف سياسات طهران وصعودها الإقليمي وتدفق «ثورتها» الشيعية نحو منطقة ذات أغلبية عربية سنية، لذلك تبدو هذه العقوبات وكأنها (عنق الزجاجة) الأخير الذي أن تجاوزته إيران، فإنها ستغرق المشرق العربي بمزيد من أمواجها الهوجاء.
فالإيرانيبون، ومنذ سيطرة الخميني على السلطة، عام 1979، وهم يرزخون تحت أشكال من العقوبات الأوروبية والأمريكية، حتى إن البرنامج النووي نفسه الذي تطور بمساعدة وتعاون من الفرنسيين والأمريكيين في عهد الشاه، توقف بعد سيطرة الخميني، لتلجأ طهران لاحقا للصين ومن ثم لروسيا، التي ساهمت بشكل كبير في إعادة بناء البرنامج النووي الإيراني. لذلك، فإن العقوبات لا تسقط أنظمة في الغالب، بل تضيق عليها، وعلينا أن نتذكر أن إيران تمكنت من تمديد أذرعها في العراق وسوريا واليمن ولبنان، وهي خاضعة لتلك العقوبات، وفي وضع اقتصادي مزر، بينما فشلت دولة غنية كالسعودية في مواجهتها، فالملاءة المالية لا تعني دائما القدرة على إدارة نزاع سياسي أو عسكري، أو التمكن من جلب الاحترام والمكانة الدولية، وها هو الرئيس الأمريكي ترامب، يوجه الإهانات واحدة تلو الأخرى، لقيادة السعودية رغم أنها من أكثر الداعمين لاقتصاد أمريكا، بينما يخاطب الإيرانيين بطريقة ندية داعيا إياهم للتفاوض، وهنا مثال آخر جلي، على أن القوة والنفوذ تفرض وتبنى ولا تشترى، فالسعودية التي استقوت بالأمريكيبن لعقود لم تستطع مواجهة التمدد الإقليمي الكاسح لإيران في المشرق العربي، رغم أن إيران لا تحظى بدعم الإدارة الأمريكية كما السعودية، ورغم أن إيران استخدمت وما زالت خطابا إسلاميا معاديا للأمريكيين، بينما حاولت الرياض فعل العكس وانظروا النتائج. الأمريكيون أنفسهم، لا يبدو أنهم يخططون لأكثر من ضغط اقتصادي يجبر إيران على العودة لطاولة المفاوضات النووية، ولا تبدو أي خيارات عسكرية أخرى ممكنة، خصوصا تلك المتعلقة بإسقاط النظام الإيراني، فحتى إن وصلت الأمور لضربة عسكرية ما، فإنها لن تتطور لعملية شاملة لتغيير النظام، فهذه قضية أصبحت من المحاذير الأمريكية بعد التورط في العراق، الذي أدت سياساتهم الفاشلة فيه، لسيطرة قوى شيعية عراقية موالية لإيران، الأكثر تغلغلا من الأمريكيين في العراق، تاريخيا وثقافيا واجتماعيا، كما أقر الجيش الأمريكي في تقريره النقدي الشهير والذي صدر قبل شهور قليلة.
الملاءة المالية لا تعني دائما القدرة على إدارة نزاع سياسي أو عسكري، أو جلب الاحترام والمكانة الدولية
فأي عملية لتغيير السلطة، تتطلب دراسة لمدى القدرة أولا على إسقاط النظام، وثانيا وجود بديل قادر على الامساك بزمام الامور، وثالثا وهو الأهم، ما هي التكاليف والأثمان السياسية والمادية التي ستتكلفها الإدارة الامريكية عندما تقدم على مشروع كهذا في بلد ما، فعراق صدام حسين مثلا، كان لقمة سائغة للأمريكيين، فهو أولا كان محاصرا ومنهكا قبل الاحتلال بسنوات، والأهم أن تركيبته الاجتماعية لم تساعد سلطة كنظام صدام حسين على الصمود في وجه تحد خارجي كبير كالغزو الأمريكي، فأكثر من ثلثي الشعب من شيعة وأكراد كانوا ينتظرون هذه الفرصة للتخلص من حكم صدام حسين، وهم من شكلت أحزابهم السلطة الجديدة بعد الاحتلال، بتأييد من السكان جنوب وشمال البلاد، نجح صدام في مواجهة تحد عسكري كالحرب الإيرانية لثماني سنوات، إلا أن فارق القوة العسكرية بين إيران وأمريكا، وفارق قوة دولة صدام العسكرية والسياسية ما بين الثمانينيات وعام 2003، وفارق التوازنات الإقليمية بين المرحلتين، كلها أسباب عجلت بسقوط بغداد للامريكيين حينها، وهي في الوقت نفسه الأسباب التي تجعل طهران أكثر منعة أمام الامريكيين اليوم، فانهيار الاتحاد السوفييتي وعدم وجود حلفاء إقليميين لصدام حسين في المنطقة حينها، يقابله اليوم وجود حلفاء لطهران فاعلين سياسيا وعسكريا من بغداد ولا ينتهي في بيروت، كما استعادت روسيا المناصِرة لطهران قوتها الدولية، هذه العوامل وغيرها تجعل الصدام مع إيران عمليا وكأنه صدام مع إقليم كامل وقوى دولية تسانده، وهذه الاعتبارات هي نفسها ما دفع جامعة كولومبيا وقبل سبع سنوات من اليوم، من التحذير من تكلفة أي هجوم أمريكي على إيران، من خلال إعداد ورقة بحثية بالتعاون مع مساعد مستشار الأمن القومي في عهد اوباما كولن كال، وقع عليها عدد من كبار السياسيين الامريكيبن منهم وزير الدفاع الأمريكي السابق، وحذرت هذه الورقة البحثية من تكلفة الهجوم على إيران مفرِدة جزءا كبيرا للحديث عن ردود فعل أذرع إيران وميليشياتها والخسائر المتوقعة في صفوف الأمريكيين وحلفائهم، والتأثير على الاقتصاد الاقليمي وممرات النفط في الخليج وغيرها من العوامل العديدة التي تمت دراستها للخروج بالإجابة عن ثلاثة أسئلة: ما هي أهداف العمل العسكري؟ وهل لأمريكا القدرة على تحقيق تلك الأهداف؟ وما هي الاستراتيجية المرسومة للخروج؟ وبينما يطرح الامريكيون أسئلة كهذه لحساب الربح والخسارة، يعتقد الكثير من الجمهور العربي أن الامريكيين سيقاتلون الإيرانيين فقط من أجل عيونهم، لطرد الإيرانيين من بلادهم، ومن دون أي حساب للتكاليف والنتائج، وأن إسقاط النظام الإيراني المدرع بحلف إقليمي يحكم كبرى عواصم المشرق العربي وبدول عظمى كروسيا، هو مجرد (كبسة زر) من إصبع المنقذ ترامب لا أكثر.
القدس العربي