نعيش ظاهرة استشراس متعددة الأوجه على القضية الأعدل في التاريخين القديم والجديد، القضية الفلسطينية. فالولايات المتحدة وربيبتها الصهيونية، تقومان فعليا بتطبيق التصفية، من خلال «صفقة القرن» التي ابتدأت خطوتها الأولى بالاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة للكيان العنصري الاستيطاني، ونقل السفارة الأمريكية إليها، وسيجري عقد مؤتمر اقتصادي في المنامة.
وبمجرد تصريح لـ»رويترز» لآلان كار المراقب الأمريكي لما تسميه واشنطن بـ»معاداة السامية»، بأنها ستراجع علاقاتها مع حكومات الدول المعادية للصهيونية وستقرن ذلك بمعاداتها للسامية، وستساوي بين الظاهرتين، قام مجلس النواب الاتحادي الألماني (البوندستاغ) بإدانة حركة المقاطعة ضد دولة الاحتلال BDS ووصفها بأنها «معادية للسامية» ليثبت فعلاً مقولة إن الاتحاد الأوروبي عملاق اقتصادي وقزم سياسي، وأنه سيكون مُقدمة لقرارات مُشابهة تتخذّها برلمانات أوروبية أُخرى.
من جانبه رحّب نتنياهو بالقرار، كذلك أعلنت وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فيدريكا موغريني، أن الاتحاد ستتصدر تحقيقا مُعمّقا لـ»إيجاد مضامين تشجع التحريض على الكراهية والعنف، في مناهج التعليم الفلسطينية الجديدة، خشية سوء استخدام أموال المساعَدة الأوروبية. المخاوف آخذة في التصاعد بأنّ الاتحاد في صدد التخلّي التدريجي عن سياساته إزاء الصراع العربي الصهيوني. أيضا، تبنى مجلس العموم البريطاني بالقراءة الأولى، مشروع قرار «يمنع استخدام أموال الضرائب البريطانية لتعليم الكراهِية». فيما أعلنت الحكومة الألمانية فتح «تحقيق ذاتي» في مضامين كُتب التعليم الفلسطينية الجديدة»، كما قالت صحيفة «يديعوت أحرونوت». كذلك كان وزير الخارجية الألماني هايكو ماس قد انتقَد قبل أسبوع، المعامَلة السيئة لإسرائيل في لجان الأمم المتحدة، معتبراً أنه «يتم التنديد بها بشكلٍ غير لائِق ومعاملتها بتحيّز وتهميشها».
قرار البرلمان الألماني، استكمال لقانون غيسو «الذي يجرّم كلّ من يشكك بالرواية والأساطير التضليلية الصهيونية، بالسجن مدة طويلة»، رغم مخالفة ذلك لحرية التعبير والرأي، والاتفاقيات الأوروبية حول حقوق الإنسان. ورغم قرار دول الاتحاد الأوروبي عام 2014 بفرض مقاطعة علمية وأكاديمية وتجارية واستثمارية وبحثية ضد المستوطنات الإسرائيلية، كان ذلك، نتيجة لحكم المحكمة الدولية في لاهاي، والقاضي بأن المستوطنات الإسرائيلية غير شرعية وتخرق البند 49 من ميثاق جنيف. من جانبها، نددت حركة المقاطعة بالقرار الألماني، وقالت في بيان لها «إن مساواة البوندستاغ لحركة المقاطعة غير العنفية من أجل الحقوق الفلسطينية، بمعاداة السامية، مبنية على أكاذيب واضحة». واعتبرت أن «هذا القرار معاد للفلسطينيين، كما أنه خيانة للقانون الدولي والديمقراطية الألمانية ومكافحة العنصرية الحقيقية».
من ناحية أخرى، فإن الوجه الآخر للاستشراس على القضية الفلسطينية، يأتي من بعض أطراف النظام الرسمي العربي، المتكالب على الفلسطينيين: تطبيع علني مع العدو الصهيوني، تبادل الوفود معه، الإيعاز لكتبته بالحق الشرعي لإسرائيل في الأرض الفلسطينية، وأن فلسطين لم تقم لها دولة في يوم من الأيام… إلى آخر هذه المعزوفة التضليلية البائسة، كما من خلال تعذيب الفلسطينيين في بلدانهم، بدءًا من المطارات إلى الملاحقات… الخ. هذا الاستشراس هو الأخطر، كونه يأتي ممن يعتبرون ذوي قربي، هؤلاء يبررون عجزهم تجاه فلسطين بالاستسلام لإسرائيل، إلى جانب إملاءات السيد الأمريكي عليهم. بالطبع، ولو من خلال رسالة ينقلها موظف صغير في السفارة الأمريكية لحاكم ذلك البلد، الذي لا يملك إلا أن يردّد «سمعاً وطاعة»، لذلك، يطلع علينا نتنياهو بين الفينة والأخرى، ليغرّد بإشادته بعلاقات إسرائيل مع العديد من الدول العربية والإسلامية، العلنية والسرّية منها
(التي تجري تحت الطاولة) أهذه هي العروبة؟ أهذا هو الإسلام؟ أهذا هو التمسك بكتاب الله عزّ وجلّ: «وأعدوا لهم ما استطعتم» و»يا أيها النبي حرّض المؤمنين على القتال» و»وقاتلوا الذين يقاتلونكم» الخ. لكل ذلك. نحن بأمسّ الحاجة إلى السياسيين العضويين فلسطينيين وعربا. نعم ابتكار تعبير «المثقف العضوي» غربي، من غرامشي تحديدا، ونحن كعرب لا تنقصنا ملكة الابتكار.
السياسي العضوي، يظلّ مؤمنا ومخلصا لأهداف شعبه الأساسية، خاصة عندما تكون إنسانية عادلة
السياسة في الفهم الصحيح لها، ثابتة في أسسها الرئيسية، ومتحركة في انتقاء المواقف الآنية، ولكن المنسجمة مع الأسس ولا تضربها، لذا، فإنها تفتقد صفة الثبات المطلق. السياسة مرتبطة أيضا بمذاهب متعددة، أهمها الطبقة لدى الماركسيين، والقومية لدى القوميين، وغيرهما، لكنها بالضرورة ليست ولن تكون وفق التعريف الغورباتشوفي لها «بأنها فن الممكن»، وإلا لأصبحت انتهازية والحالة هذه، إذ أن كثيرين يتّبعون هذا التعريف لتبرير تنازلاتهم، بل خياناتهم للأهداف التي قام عليها حزبهم/ جماعتهم/ حركتهم، سواء على صعيد الدولة أو حركة التحرر الوطني، فالفارق كبير بين النضالات في إطار الدولة المتشكلة، والنضال لانتزاع الدولة من براثن المحتلين أولا، ثم بعد التحرير، تجري قيادة المعركة الاجتماعية الاقتصادية السياسية، لاختيار شكل نظام الحكم، وأجهزته وأدواته، وهي قضايا مؤجّلة، لكن لا بدّ من امتلاك تصوّر فكري أيديولوجي سياسي مسبق حولها.
نقول ذلك، لأن السياسي ليس كما عرّفه، كارل شميت مؤلف كتابي «اللاهوت السياسي» و»مفهوم السياسي»، يقول شيئاً ويمارس عكسه، ففي كتابه الأخير نادى بتكامل آراء السياسي، وفقا لمذهبه العقائدي الإنساني، كما تطرّق للوسائل اللازمة لتحقيق أهدافه، لكنه للأسف، التحق بعد ذلك بالحزب النازي عام 1933، وكان من أكبر نقّاد الحريات العامة في حياته، مثلما هو أحد الممهدين فكرياً لطروحات المحافظين الجدد، الذين يلعبون حالياً دوراً رئيسياً في صوغ السياسة الخارجية الأمريكية، ورغم ذلك ما زال البعض يعتبره مفكراً سياسياً مهما في القرن العشرين، لأن أفكاره ودقة تعبيراته لا تزال حية حتى الآن في تطبيقات انتهازية. لذلك، فالسياسي العضوي، يظلّ مؤمنا ومخلصا لأهداف شعبه الأساسية، خاصة عندما تكون إنسانية عادلة. السياسي العضوي لا يسير مع التيار السائد، المنجرف مع بحر الأوهام، حتى لو بقي وحده في الساحة. كما أنه يزاوج بين ما يكتب ويصرّح عن عدالة أهداف شعبه، ومسلكيته السياسية العامّة والخاصّة. السياسي العضوي، يحوّل الأهداف الصعبة،، إلى ممكنة، واقعية محسوسة، مستجيبا لإرادة شعبه، الذي يكافع ويناضل من أجل حقوقه المشروعة، رغم الاستشهاد والمعاناة، والسجون، واللجوء، وكلّ القهر والعذابات. السياسي العضوي، هو الذي لا يحسب القضية/ القضايا المؤمن بها بموازين الربح والخسارة الشخصية، فهي لا تتخذ صفة الخصوصية، إلا من خلال كونها نقطة في مجمل الأهداف العامة للشعب، وهذه بالطبع تحقق الهدف الخاص للفرد، لذا، فإنه يلغي مصالحه الأنانية الخاصة، بل يقولبها لتصب في مجرى النضال الوطني الشعبي العام. إنه يبيّن الأهداف الإنسانية لفكره الأيديولوجي، بعيدا عن مفاهيم الصراعات الفكرية الأخرى، وبعيدا عن النظريات الفلسفية التطويعية للوسيان سيباغ وألتوسير وغيرهما، التي استهدفت إخضاع الماركسية لنسق المقاربة البنيوية، ومن ثم تخليصها من طابعها الأيديولوجي التعميمي. لقد قاوم ألتوسير التقاليد الهيغلية – الماركسية في المقاومة، وهي التي تم التأسيس لها مع لوكاتش وهنري لوفيف، لذا، فإن السياسي العضوي هو من ينقد العوامل السلبية في هذه المدارس، ويفصّلْ أي أيديولوجيا يعتنقها على مقاس بلده، ولا يُخضع ظروف بلده لها.
هذا كان الخطأ القاتل للأحزاب اليسارية العربية، وقد ألحق أفدح الضرر بالقضايا الجماهيرية، التي كافحت من أجلها، وكان وبالاً ووباءً على البنية التنظيمية لها، وسبباً في انحسارها وصولا إلى تلاشيها. السياسي العضوي، يقدّر دور الثقافة والأدب في معركة شعبه. صحيح أن الماركسية وهي أساس علم الاجتماع الجدلي، تهدف إلى تحديد ماهية الأدب ووظيفته في تغيير المجتمع، وهو ما يتجاهله العديد من الماركسيين العرب وأحزابهم، باعتباره هامشياً، تطرّق إلى هذا الموضوع رامان سلدن في كتابه «النظرية الأدبية المعاصرة»، الذي استفاد من النظريات الحديثة بعقلية نقدية، وأعاد صياغتها مبينا دور الأدب العضوي في التغيير. فوفقا لماركس: «ظلت الفلسفة تفسر العالم بطرق مختلفة، ولكن المهم تغييره»، كما أن «ليس وعي البشر هو الذي يحدد وجودهم، بل إن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم». تطبيقاً، يصبح الأدب انعكاسا للمجتمع، بالتالي لا يمكن لثورة تحرر وطني أن تكون متقدمة في مجالات، ومتخلفة في إهمال دور الأدب في معركتها. لذا، لعب مبدأ الواقعية في الأدب دورا ملموسا في انتصار الاتحاد السوفييتي في الحرب العالمية الثانية، وهذا ما تطرق إليه جورج لوكاش، مستعرضاً ومفصّلاً ومطوّراً هذا المبدأ، ولزوميته باعتباره «يقدّم انعكاسا أكثر صدقا وحيوية وفعالية للواقع». عارض برتولت بريخت هذا المبدأ وسخر منه «بما يتضمنه من تشجيع للوهم الواقعي». لكن طبيعة التطور في ما بعد والتجارب الأدبية العالمية، اثبتت دقّة وصحة مبدأ الواقعية في الأدب، فالشعب من أجل تحرره يستعمل كافة أسلحته. ثم إن التطور التاريخي وبروز ظاهرة الاستعمار والاحتلال واغتصاب الأرض، نفت مبدأ أفلاطون «الفن للفن» فلا يمكن للفن ـ والأدب هو شكل فني – أن يكون محايدا، فيما الشعب يخوض معركة تحرره الوطني.
من كلّ ذلك يتضح أن السياسي العضوي يتوجب أن يتسلّح بالأدب، إضافة إلى الدفاع السياسي عن قضيته، التي يناضل وشعبه من أجلها.
القدس العربي