لم يكن سقوط صاروخ كاتيوشا في المنطقة الخضراء شديدة التحصين يوم الأحد الماضي، والتي تضم السفارة الأمريكية، سوى رسالة إيرانية مباشرة إلى طرفين: الولايات المتحدة الأمريكية لإبلاغها بأن جنودها ومصالحها في العراق هي أهداف صريحة في حال تطورت المواجهة بينها وبين إيران نحو حافة الحرب! اما الطرف الثاني فهو الدولة العراقية، بجميع سلطاتها ومؤسساتها، مفادها ان العراق لا يمكن أن يكون طرفا محايدا في هكذا حرب محتملة، وأن جهات عديدة في الداخل العراقي، لديها قراراتها الذاتية التي لا علاقة لها بقرار الدولة أو الحكومة العراقية!
كانت لدى إيران، قبل الاحتلال الأمريكي للعراق، استراتيجية واضحة بدعم الموقف الأمريكي المتشدد تجاه العراق، الى حد القبول ضمنيا بفكرة الحرب على العراق. فقد أوعزت إيران إلى المعارضة العراقية المدعومة إيرانيا، تحديدا المجلس الاعلى الذي تأسس في إيران كتنسيقية للمعارضة الشيعية العراقية، بالمشاركة في الجهود الأمريكية في هذا السياق بعد إقرار قانون تحرير العراق في العام 1998. وقد زار السيد عبد العزيز الحكيم واشنطن في عام 2002 والتقى كلا من ديك تشيني نائب رئيس الجمهورية، ودونالد رامسفيلد وزير الدفاع، وكانا أبرز شخصيتين من شخصيات اليمين المحافظ التي دفعت باتجاه الحرب! كما شارك المجلس الاعلى في مؤتمر لندن قبيل الحرب.
واصبحت الاستراتيجية الإيرانية أكثر وضوحا في دعم كيان شيعي صلد بعد 2003، يشترك فيه المجلس الاعلى، مع الأطراف الشيعية الاخرى، تحديدا حزب الدعوة والتيار الصدري، لضمان الهيمنة الشيعية على القرار السياسي في العراق من جهة، ولضمان نفوذها ومصالحها من جهة ثانية، من دون أي تقاطع مع الفاعل الأمريكي المحتل! ولكن كان ثمة تكتيك مواز، بدعم الجماعات المسلحة الشيعية المناهضة للوجود الأمريكي في العراق، عبر التدريب والتمويل والتسليح، لضمان استنزاف القوات الأمريكية في العراق بحيث تفقد قدرتها على تهديد إيران! وكانت المفارقة الواضحة آنذاك في هذه الازدواجية في الموقف من الوجود الأمريكي هو ما حصل في العام 2007 فيما سمي بـ «صولة الفرسان» في محافظة البصرة، عندما كانت هناك مواجهة عسكرية بين حلفاء إيران الاستراتيجيين (رئيس مجلس الوزراء نوري المالكي والقوات العراقية التي ضمت الميليشيات الشيعية بموجب أمر دمج المليشيات رقم 91 لسنة 2004)، وحلفائها التكتيكيين الذين تمثلوا بجيش المهدي وميليشيات أخرى صغيرة!
في رسالة الكاتيوشا الأخيرة، بدا واضحا ان إيران لم تستخدم الفصائل المسلحة الشيعية الرئيسية التي تشكل الحشد الشعبي، بل استخدمت جماعات أخرى، سواء كانت منتمية إلى الحشد الشعبي أو خارجه! وهو ما بدا من خلال البيانات والتغريدات التي أعلنتها قيادات هذه الفصائل الكبيرة لإطلاق صاروخ الكاتيوشا، بل أن السيد هادي العامري، رئيس منظمة بدر، إحدى أبرز الفصائل في الحشد الشعبي، وصف القائمين بهذا الفعل بأنهم إما «جهلة أو مدسوسون»! وهذا أمر ليس بمستغرب في العراق، في ظل فوضى السلاح، وفوضى التنظيمات المسلحة البعيدة عن سلطة الدولة! وهو ما يعطي الحرية لتنظيم مسلح هو «حركة النجباء» بالحديث عن جماعة تابعة له هي جزء من الحشد الشعبي، وجماعة أخرى تابعة له أيضا ليست جزءا منه تقاتل في سوريا! بل أن كثيرا من هذه الفصائل المنضوية تحت الحشد الشعبي تستخدم تعبيرا سياسيا هو «المقاومة الإسلامية» لتوصيف نفسها، مع ان قانون هيئة الحشد الشعبي عد هذه الفصائل جزءا من القوات المسلحة العراقية، يفضح هذه الازدواجية!
أصبحت الاستراتيجية الإيرانية أكثر وضوحا في دعم كيان شيعي صلد بعد 2003، يشترك فيه المجلس الاعلى، مع الأطراف الشيعية الاخرى، لضمان الهيمنة الشيعية على القرار السياسي في العراق من جهة، ولضمان نفوذها ومصالحها من جهة ثانية
لكن الواقع أن الغالبية العظمى من فصائل الحشد الشعبي، هي فصائل «ولائية» من الناحية العقائدية، بمعنى انها تؤمن بمبدأ الولاية العامة المطلقة للفقيه (ولاية الفقيه)، وهي تعد أية الله الخامنئي «وليا للإمام الغائب» وطاعته من طاعة الأمام نفسه! وبالتالي لا إمكانية لعصيان أوامر «الولي الفقيه»، التي هي «أحكام ولائية» واجبة الطاعة، وليس للمكلف الاعتراض عليها وإن كان مختلفا معها! يشرح أية الله الخميني في كتابه «الحكومة الإسلامية، وفي الفصل المعنون «نظام الحكم الإسلامي»، عن شرطين للحاكم: العلم بالقانون الإسلامي والعدالة، لينتهي إلى: «وإذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عالم عادل، فانه يلي من أمور المجتمع ما كان يليه النبي (ص) منهم، ووجب على الناس ان يسمعوا ويطيعوا». وإلى ان: «كل من يتخلف عن طاعتهم، فان الله يؤاخذه ويحاسبه على ذلك». والطاعة هنا مطلقة وليس للمكلف حق الاعتراض أو العصيان، كما يصفها أية الله محمد هادي معرفة في كتابه «ولاية الفقيه أبعادها وحدودها»: « لأن الطاعة المفروضة على الناس تجاه أوامر النبي وأولي الأمر الشرعيين هي الطاعة المطلقة، سواء استصوبها رعاع الناس وعامة أفرادهم أم لم يستصوبوها، الأمر الذي يعني أعرفية ولاة الأمر بمصالح العامة من أنفسهم، فلولاة الأمر حق التصرف في شؤون العامة إدارياً وسياسياً، ويكون تصرفهم هو النافذ إطلاقاً، وليس لعامة الناس حق أي اعتراض».
لقد فشلت الدولة العراقية، وليس الحكومة فقط، في ضبط فوضى السلاح، وفي ضبط فوضى الجماعات والفصائل المسلحة، خاصة وان قانون هيئة الحشد الشعبي، والتعليمات التي صدرت لتنفيذه، عجزت تماما عن إداء هذه المهمة، هكذا تفاجأ الجميع ببيانات تصدرها هيئة الحشد الشعبي في العام 2019 بإغلاق عشرات المقرات الوهمية المفترضة، والقاء القبض على عشرات الشخصيات التي كانت محسوبة على الحشد الشعبي، من دون ان يعرف أحد ما الحدود الفاصلة بين الشرعي وغير الشرعي! فقد تم مثلا اعتقال الشيخ أوس الخفاجي، زعيم لواء أبي الفضل العباس، الذي كان أول مليشيات عراقية قاتلت في سوريا بداية من كانون الثاني 2013، والذي كان يظهر في الإعلام العراقي، بما فيه الإعلام الرسمي بهذه الصفة، لكن بيان الاعتقال الرسمي «أيضا»، تحدث عن ان الاعتقال سببه وجود «مقرات وهمية تنتحل صفة الحشد الشعبي»!
تكررت التصريحات الرسمية العراقية المتعلقة بنأي العراق بنفسه عن الدخول طرفا في الصراع القائم بين الولايات المتحدة وإيران، وان العراق سيبقى على مسافة واحدة بين الطرفين، ولكن الجميع يعلم أن العراق الرسمي عاجز تماما عن الالتزام بذلك، وقد جاءت رسالة الكاتيوشا لتطيح تماما بأي «وهم» بإمكانية تحقق هذا الحياد ذلك. كما أن رسالة الكاتيوشا أرادت إبلاغ الأمريكيين بأن الدولة العراقية عاجزة تماما عن الوفاء بتعهداتها والتزاماتها بهذا الشأن. صحيح أننا ما زلنا نتحدث عن حرب مؤجلة تماما، على الأرجح انها لن تقع! إلا ان لا ضمانة أن أي خطا غير مقصود، أو ضربة محدودة، لن تدفع مرسلي رسالة الكاتيوشا، بأن يتصرفوا بطريقة ارتجالية تجعل العراق ساحة مواجهة رئيسية في الصراع الأمريكي الإيراني.
القدس العربي