قدّمت رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي استقالتها قبل يومين من إعلان نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي، في اعتراف بفشلها في إخراج بلادها من الاتحاد الأوروبي، وبالخسائر التي ألحقها هذا الفشل بحزبها حيث من المتوقع أن يسجّل المحافظون نتائج بائسة في الانتخابات الأخيرة، كما فعلوا في الانتخابات البلدية قبل فترة قصيرة.
وإذا كانت استقالة ماي مؤشرا على الانسداد السياسي الذي أدّى إليه قرار البريطانيين الخروج من أوروبا في استفتاء عام 2016 فإن هذا لا يعني أن الانسداد خاصّية بريطانية، فنتائج انتخابات البرلمان الأوروبي التي ستعلن غدا الأحد ستكشف في الحقيقة عن أشكال من الانسداد الأكبر الذي بدأ يظهر على الكيانات السياسية للقارّة الأوروبية، وهو ما التقطه زعماء أوروبا حيث حذر رئيس وزراء أيرلندا ليو فارادكار أمس الجمعة من أن بلاده تدخل «مرحلة خطرة جدا»، وتوقع رئيس وزراء اليونان ألكسيس تسيبراس أن الانتخابات الأوروبية «قد تؤدي لإجراء انتخابات مبكرة» في بلاده، وحذّرت رئيس وزراء ألمانيا، أنغيلا ميركل ناخبي بلادها من التصويت لأحزاب اليمين المتطرّف.
غير أن أكثر الشهادات قسوة جاءت من وزير خارجية فرنسا، جان إيف لودريان، الذي قال إن أوروبا «مهددة بالتفكك والخروج من التاريخ»، وأن القارة صارت «ساحة رهانات بين قوى تريد تفكيكها»، مشيرا بصراحة إلى التهديد الذي تتعرض له القارة أمام نهج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المعادي للاتحاد الأوروبي، وكذلك نهج إدارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي «يحاول بعدة طرق جعل أوروبا تتفسخ»، من دون أن يوفّر الصين التي «تحاول ضرب تضامن الدول الأعضاء فيما بينها»، خاتما بالحديث عن العامل الداخلي الذي يوفّر لكل هؤلاء الأعداء الحاضنة السياسية والاجتماعية، ممثلة بالأحزاب الشعبوية التي «تحاول المساهمة في عملية التفكك هذه».
سيؤدي دخول نسبة وازنة من أحزاب اليمين الشعبوي إلى البرلمان الأوروبي إلى مفارقة كبيرة، فهذه الأحزاب لا تخفي عداءها للاتحاد الأوروبي، وبعضها على علاقة سياسية (وأحيانا ماليّة) بأعداء هذا الاتحاد الذين يعملون، كما قال لودريان، صراحة على تفكيكه.
تسيطر على هذه الأحزاب نزعات العداء للإسلام واللاجئين والمهاجرين، ويسعى زعماؤها الذين وصلوا للحكم، كما حدث في إيطاليا والنمسا، إلى التضييق الشديد على المهاجرين، وفي الوقت الذي يكره هؤلاء العرب والمسلمين والأفارقة والمهاجرين عموما، فإنهم على علاقات جيدة مع أنظمة العرب المستبدة، وتجد هذه الأحزاب في عداء هذه الأنظمة العربية للحركات الإسلامية و«الإسلاميين» نقطة تواصل والتقاء.
تحدّثت هذه الأحزاب في اجتماعها مؤخرا في ميلانو الإيطالية عن سعيها إلى «تغيير التاريخ»، وهو أمر كثير من السياسيين والمعلقين ذكره، كما تحدّث بعض زعمائها عن رغبتهم بانتهاج نهج ترامب في الدفاع عن مصالح بلاده، ولكن إذا كان هذا ممكنا للولايات المتحدة التي تعتبر أكبر قوة اقتصادية وعسكرية في العالم، فإن دفاع هؤلاء عن مصالح بلادهم، سيعني الاختلاف، بداية مع جيرانهم الأوروبيين، على ما هو حاصل حاليّا بين إيطاليا وفرنسا، وكذلك إلى الاختلاف مع خصومهم السياسيين والاجتماعيين، مهددين القيم السياسية التي حافظت على سلام أوروبا وازدهارها لعقود، ويبدو أن هؤلاء القادة الشعبويين يتناسون أن أيديولوجياتهم هذه طبّقت في ثلاثينيات القرن الماضي وأدت إلى حرب عالمية دمّرت أوروبا وسفكت دماء ملايين البشر.
وإذا كان هذا هو حال أوروبا التي تعتبر، مجتمعة، أكبر اقتصاد عالميّ، فماذا سيحصل في الهند التي فاز فيها حزب جاناتا الهندوسي مجددا، في علاقتها مع جوارها وخاصة باكستان، وكلتاهما دولتان نوويتان، أو أمريكا اللاتينية، التي انتخبت أكبر دولها، البرازيل، شبيها متطرفا لترامب، وماذا سيحصل في العالم العربي مع إفلات ترامب عقال إسرائيل على الفلسطينيين، وتحالفه مع أنظمة عربية تتعامل مع البشر بالمنشار والتعذيب والخطف؟
القدس العربي