مع تسرب أنباء عن أن تركيا أبلغت فعلا الفصائل المعارضة القريبة منها، أن اتفاقيات سوتشي واستانة مع روسيا وايران، تعتبر لاغية، تضع تركيا نفسها في موضع محرج مجددا، كونها قدّمت نفسها في آخر نسخة من اتفاقات المناطق الآمنة، كدولة ضامنة في اتفاقية مناطق خفض التصعيد، التي شملت أربع مناطق للمعارضة، وفشلت في ضمان أي حماية لتلك المناطق من هجمات النظام وحليفتيها في أستانة روسيا وإيران.
فبعد سقوط المناطق التي ضمنتها تركيا في الغوطة ودرعا وريف حمص، عادت إدلب لتشكل اختبارا جديدا لمدى قدرة تركيا على فرض وزنها الإقليمي في الملف السوري، والإيفاء بتعهداتها كدولة ضامنة، وتنفست المعارضة السورية الصعداء عندما قاومت تركيا مساعي روسيا والنظام لبدء هجوم لاستعادة إدلب، وأنجزت اتفاقا جديدا لشريط عازل، ووقف مؤقت لإطلاق النار، لكن المسؤولين الروس والسوريين أكدوا أن الاتفاق مؤقت، ولم يكن معرفة ذلك يتطلب تصريحا من لافروف، لأن المتابع لمسار النزاع في سوريا، يدرك أن النظام السوري وحليفتيه روسيا وايران، لن يتركوا منطقة في سوريا خارج سيطرة النظام، وأن طريق التفاهمات السابقة في أستانة وسوتشي كان مجرد جهد سياسي من حلفاء النظام في طهران وموسكو، لتأجيل معارك ثانوية مقابل المعارك الأهم في كل مرحلة، فأقنعوا فصائل المعارضة المرتبطة بتركيا بتهدئة جبهة الغوطة وحمص ودرعا، بينما كان النظام منشغلا في حملة كبرى في السخنة ودير الزور، لمسابقة النفوذ الامريكي في منطقة الحدود، ثم استفرد النظام بتلك المناطق واحدة تلو الاخرى، وكأنها كانت تنتظر مصيرها مستسلمة، وسارعت القوى الثورية للانخراط السريع بالمصالحات والتسويات، ليصبح مقاتلو دوما عناصر في جيش النظام اليوم في إدلب، بل يلقى 14 عنصرا منهم حتفهم بصفوف النظام! هذا التخبط لعب عدد من الدول الداعمة دورا في تعزيزه لدى الفصائل، المهيئة أصلا له، فحتى المناطق التي تسيطر عليها تركيا اليوم في عفرين ودرع الفرات، باتت مناطق خضراء للنظام غير مسموح لفصائل تركيا فيها بمهاجمة النظام، ومن يفعل ذلك ككتيبة الشرقية بقيادة أبوخولة الموحسن، الذي هاجم تادف، تتم معاقبته، ليقوم بالانشقاق مؤخرا عن درع الفرات وينضم لجيش العزة، بينما أصبحت ساحة إدلب الخاضعة لتحرير الشام هي الساحة الوحيدة التي يمكن للثورة أن تقاتل فيها النظام، فانتقلت بعض فصائل تركيا لإدلب للقتال هناك، بدون أن تستطيع فتح معركة واحدة من مناطق درع الفرات التركية باتجاه تل رفعت أو تادف.
وهكذا كان من المفترض منذ البداية التموضع التركي الجديد لجانب روسيا وإيران في الملف السوري، وأن أي مشاركة لتركيا في أي اتفاقات ضمان، محكوم عليهم بالدوران في حلقة السياسة الروسية الداعمة للأسد، مع منح أنقرة أولوية للتهديد الكردي والتطبيع مع النظام السوري، واتضح ألا قوة اقليمية أو دولية قادرة على معادلة النفوذ الإيراني والروسي في سوريا، فهما بالتالي وما داما خاضا حربا لسنوات لتعزير سلطة الأسد، واجها فيها قوى دولية وإقليمية، مؤيدة للمعارضة، فلن يقبلا أن تشكل أنقرة أي عائق أمامهما لإكمال مشروعهما لدعم الاسد، وصولا للسيطرة على إدلب في الشهور المقبلة، رغم الثمن الباهظ الذي سيدفعه النظام، بسبب المقاومة الشرسة للجهاديين في تحرير الشام والتركستان وجيش المهاجرين والانصار وانصار الدين وحليفها جيش العزة، وما بعد إدلب، سيكون على تركيا في العام المقبل ربما، إخلاء جنودها من درع الفرات وعفرين لتعود سيطرة الاسد، التزاما بالتفاهمات مع روسيا، التي سمحت أصلا لتركيا بدخول هاتين المنطقتين، دخلت وهذا ما لا يستوعبه الكثير من منظري المعارضة السورية، الذين يعتقدون أن تلك المناطق ستكون آمنة مستقبلا للمعارضة السورية والنازحين.
أحد أسباب انحسار الثورة السورية هو ضعف فعالية حلفائها، مقارنة بحلفاء الأسد، إيران وروسيا
الامر نفسه ينطبق على توقعات «المظلة الآمنة التركية في إدلب»، ورغم أننا أشرنا منذ تسعة شهور، في هذه الزاوية إلى أن تركيا لن تستطيع فعل شيء لمواجهة الهجوم المرتقب منذ شهور على إدلب، بل توقعنا أن نقاط المراقبة التركية «ستكتفي بالمراقبة» عند بدء الهجوم، لكن وكعادة المحللين المتعاطفين مع تركيا، انطلقوا في تصورات خلبية، تضخم من القدرة التركية على تشكيل «مظلة آمنة» لإدلب، واستبعدوا تنازل تركيا عن موقفها المعاند والحامي لإدلب، قبل أن يتبين أن المظلة التركية «مثقوبة»، فالوزن السياسي والعسكري لتركيا في سوريا اليوم لا يؤهلها للعب هذا الدور، بل إن انقرة تحدثت وعلى لسان كبار مسؤوليها أنها لا تمانع بعودة سيطرة النظام على أراضيه، إذ إن تركيا باتت تنظر للأسد على انه تهديد ثانوي مقابل التهديد الكردي المتنامي، لكن ولسوء التقديرات والإمكانيات التركية، لا هي واجهت التهديد الثانوي، الأسد، ولا هي استطاعت إكمال مهمتها التي طالما وعدت وتوعدت بها، بتطهير شرق الفرات من القوى الكردية المناوئة لها، إذ إن القيود الامريكية الروسية منعتها هذه المرة من التوغل مجددا في الاراضي السورية، على عكس ايران التي تتوغل في أربع دول عربية وترسل ميليشياتها بدون انتظار إذن من أحد، وهذا يقودنا ربما لطبيعة السياسات والنفوذ الخارجي الهش لتركيا في دول الجوار العربي، خصوصا العراق وسوريا، اللذين تعرضا لهجمة طائفية كبيرة، تأمل فيهما المكون السني أن يلعب الاتراك دورا في معادلة الدور الايراني، لكن هذه الأمنيات لم تكن خاضعة لأي قراءة تحليلية تقيس موازين القوى وفرق النفوذ الاقليمي بين البلدين، وطبيعة سياساتهما الخارجية.
لا شك أن تركيا لا ترغب برؤية حمام الدم في إدلب، وسبق أن أعلنت رسميا أن الهجوم على ادلب سيسبب لها ازمة جديدة متمثلة بنزوح الالاف لتركيا، ولكن تركيا وضعت نفسها في موقف لا تحسد عليه، فلا هي تمكنت من احترام تعهداتها كدولة ضامنة، ولا أرغمت روسيا وايران على وقف هجومهم على ادلب، ولذلك ارتفعت أصوات النقد والاتهام لتركيا، بأنها شريك لروسيا في الهجوم، وانها تنسق معها لإنهاء المعارضة، وهذا اتهام غير موضوعي وقفز لاستنتاجات غير صحيحة، فإن تكون تركيا «غير قادرة» على دعم المعارضة لا يعني أنها «متآمرة عليها»! السياسة التركية في الملف السوري قد توصف بأنها محدودة التأثير وسيئة التقديرات، لكن هذا لا يعني انها متآمرة مع روسيا لمحاربة المعارضة.
ما يحصل من تراجع تركي في إدلب، يذكرنا ايضا، بإحدى الحقائق الماثلة في مسار الثورة السورية، وهي أن أحد أسباب انحسار الثورة السورية هو ضعف فعالية حلفائها، مقارنة بحلفاء الأسد، ايران وروسيا.
القدس العربي