مأزق “قسد” يتفاقم: بوادر تخلٍ أميركي تهدد المشروع الكردي

مأزق “قسد” يتفاقم: بوادر تخلٍ أميركي تهدد المشروع الكردي

يعود الحديث من جديد عن مستقبل الأكراد في خارطة الصراع السوري، وتحديداً في منطقة شرقي الفرات، ومشروعهم إقامة إقليم ذي صبغة كردية في تلك المنطقة، بعد موقف لافت للولايات المتحدة بأنها لا تدعم المقاتلين الأكراد الذين يسيطرون على المنطقة لبلورة مستقبل سياسي خاص بهم في سياق حل القضية السورية، ليوجّه ذلك ضربة قوية لآمال هؤلاء، المنضوين تحديداً في “قوات سورية الديمقراطية” (قسد)، في تشكيل إقليم بصبغة كردية شمال شرقي سورية، خصوصاً في ظل رفض تركيا لذلك الإقليم، الذي تعتبره مساساً بأمنها القومي وتعمل على تقويضه بشتى السبل. ويفاقم ذلك مأزق الأكراد في سورية، في ظل تهديدات من النظام السوري بالعودة إلى تلك المنطقة، سلماً أو حرباً، فيما تكاد “قسد” لا تجد مكاناً لها في العملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة في جنيف.

وأعلنت الولايات المتحدة أنها لا تعمل مع “قسد”، التي تشكّل الوحدات الكردية ثقلها الرئيسي، على أي مشروع حول المستقبل السياسي للأكراد السوريين، وتعدها شريكاً عسكرياً فقط. وقال المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية، جيمس جيفري، خلال جلسة استماع في لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأربعاء الماضي: “نحتفظ بعلاقاتنا مع قسد باعتبارها شريكاً عسكرياً في محاربة داعش من أجل إرساء الاستقرار في المنطقة”. وأشار المسؤول الأميركي إلى أنه “ليست لدينا أي أجندة سياسية مشتركة معهم، باستثناء وجودنا في المنطقة التي يسيطرون عليها عسكرياً وإدارياً”، مضيفاً: “لهذا السبب يجب علينا الحفاظ على علاقات عقلانية معهم ونقوم بدعمهم. ونحن أيضاً مدينون لهم بشكل من الأشكال، لأنهم حاربوا داعش في صفوفنا”. وتابع: “لكننا لا نطرح عليهم أي مستقبل سياسي، إلا ذلك الذي نعرضه على الجميع في سورية”. وشدد على أن الولايات المتحدة متمسكة بالعملية السياسية، التي ينص عليها القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.


جيفري: نحتفظ بعلاقاتنا مع قسد باعتبارها شريكاً عسكرياً في محاربة داعش


ويعزز تصريح المسؤول الأميركي مخاوف الأكراد السوريين من تخلّي واشنطن عنهم بعد القضاء على تنظيم “داعش” في شمال شرقي سورية، وتركهم لمصيرهم في ظل تهديدات تركية باجتياح منطقة شرقي الفرات للقضاء على المقاتلين الأكراد. كما أن النظام السوري لم ينفك يكرر تهديده المباشر بالعودة إلى شرقي نهر الفرات سلماً أو حرباً. وتعليقاً على كلام جيفري، شدد مصدر رفيع المستوى في “مجلس سورية الديمقراطية” (مسد)، الذراع السياسية لـ”قسد”، على أن تصريحات المسؤول الأميركي “لا تغير شيئاً على أرض الواقع”، مضيفاً، في حديث مع “العربي الجديد”، أن “تصريحات جيفري قيد الدراسة”. وكانت “قوات سورية الديمقراطية” قد سيطرت لأعوام على منطقة شرقي نهر الفرات التي تعادل ثلث مساحة سورية، عقب طردها تنظيم “داعش” من هذه المنطقة، بمساعدة عسكرية من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة. ويُنظر إلى هذه المنطقة باعتبارها “سورية المفيدة”، إذ تضم أهم الثروات الطبيعية السورية، فضلاً عن موقعها الجغرافي الاستثنائي في سياق الصراع المحتدم على سورية. وعلى الرغم من أن الأكراد السوريين أقلية في هذه المنطقة، إذ يشكّل العرب الغالبية الساحقة من السكان، إلا أن الوحدات الكردية هي المتحكّمة بالمنطقة تحت قناع “قسد”، التي باتت الذراع البرية للولايات المتحدة في سورية.

لكن المساعي الكردية لخلق وقائع على الأرض تدفع المجتمع الدولي إلى القبول بوجود إقليم ذي صبغة كردية شمال شرقي سورية، تصطدم برفض تركي كبير، إذ تعتبر أنقرة إقامة هذا الإقليم مساساً بأمنها القومي وتعمل على تقويضه بشتى السبل. وتأتي تصريحات المسؤول الأميركي في خضم محاولات أميركية تركية لبلورة تفاهم يحسم مصير هذه المنطقة لدرء “الخطر الكردي” على تركيا من خلال إقامة “منطقة آمنة” لا وجود للوحدات الكردية فيها، بعمق يتجاوز 30 كيلومتراً على طول الحدود السورية التركية شرقي الفرات. ومن الواضح أن واشنطن حريصة على تحسين علاقتها مع أنقرة، ومن ثم تحاول تبديد مخاوف الأتراك من الطموح الكردي في سورية بإقامة إقليم شبيه بإقليم كردستان العراق بمساعدة غربية، يمكن أن يغري أكراد تركيا للسعي إلى إقامة إقليم شبيه.

وما يصعّب من مهمة “قسد”، أنها غير حاضرة في العملية السياسية في جنيف، إذ لا تزال المعارضة السورية ترفض أن يكون “مسد” جزءاً منها ومن وفدها المفاوض في جنيف، بسبب اتهامات تطاول ذراعه العسكرية “قسد” بارتكاب جرائم تهجير واسعة النطاق بحق المعارضين لها من عرب وأكراد وتركمان، فضلاً عن اتهامها بمحاولة تشكيل إقليم في خطوة نحو تقسيم البلاد. وتعتبر المعارضة السورية “المجلس الوطني الكردي”، المنضوي في الائتلاف الوطني السوري، ممثلاً للأكراد السوريين. وكانت وسائل إعلام تداولت أنباء عن ضغط أميركي على المعارضة السورية لضم “مسد” إلى صفوفها، خصوصاً في الوفد المفاوض في جنيف، لكن المصدر الرفيع المستوى في “مسد” أكد، لـ”العربي الجديد”، أن الموضوع “مجرد إشاعات”، مضيفاً: “سألنا الأميركيين عن الأمر، فقالوا إنهم لم يقوموا بذلك”.


لا تزال المعارضة السورية ترفض أن يكون “مسد” جزءاً منها ومن وفدها المفاوض في جنيف


في المقابل، لم تثمر عدة جلسات حوار وتفاوض بين “مسد” والنظام في العاصمة السورية دمشق عن أي اتفاق، إذ يصر النظام على استرجاع شرقي الفرات من دون شروط مسبقة، في حين يرفض الأكراد، ومن يحالفهم من مكوّنات هذه المنطقة من عرب وسريان، عودة الوضع إلى ما كان عليه قبل الثورة السورية عام 2011، مطالبين بأن تكون “قسد” جزءاً من جيش النظام، وأن تتمتع المنطقة بوضع خاص من خلال نظام لا مركزي. كما يطالب الأكراد السوريون بالاعتراف بحقوقهم دستورياً، والاعتراف بالإدارة الذاتية التي شكلوها في مناطق سيطرتهم، رافضين مبدأ المصالحات الذي يطرحه النظام عليهم، والذي أثبتت الوقائع أنه مدخل لعودة النظام مرة أخرى إلى المناطق التي خرجت عن سيطرته للفتك بها وإخضاعها من جديد.

وتطالب أحزاب كردية، تدور في فلك حزب “الاتحاد الديمقراطي”، الذي يتخذ من الوحدات الكردية ذراعاً عسكرية له، بدستور جديد، ينص وفق مسودة نُوقشت في مؤتمر عُقد في مارس/آذار الماضي، على أن “سورية جمهورية موحدة ديمقراطية، ذات سيادة وشخصية قانونية، نظامها (مختلط) رئاسي-نيابي. ولا يجوز التخلي عن أي جزء من أراضيها”، وأنه لا يجوز تحديد هوية من يتولى رئاسة البلاد “على أساس انتماء قومي أو ديني”. ومن مبادئ المسودة أيضاً أن “سورية دولة تعددية ومتنوعة قومياً ودينياً، تقوم على فصل الدين عن الدولة، وتصون اللامركزية الديمقراطية هذه التعددية وتعتبر المعيار لها. وتمثل هذه اللامركزية نموذج الإدارة الذاتية في شمال سورية وشرقها”، إضافة إلى ضرورة اعتماد “النسبية والتوافقية، واعتماد نظام الدوائر الانتخابية مع اعتماد اللامركزية الديمقراطية وفصل السلطات الثلاث”.

وتعليقاً على ذلك، أشار الباحث السياسي المقرّب من “الإدارة الذاتية” الكردية، إدريس نعسان، في حديث مع “العربي الجديد”، إلى أن الولايات المتحدة الأميركية “تسعى بشكل حثيث في الفترة الأخيرة إلى إبقاء الوضع بين قسد وتركيا هادئاً قدر المستطاع”، مضيفاً: “هي تحاول تشجيع الطرفين على التقارب والتفاهم، للاحتفاظ بحلفائها جميعاً في الميدان السوري وقطع الطريق أمام قيام الخصوم باستغلالهم، كما هو الحال مع التقارب الروسي التركي المزعج والمقلق للجانب الأميركي”. ورأى نعسان أن “الحديث عن منطقة آمنة تديرها قوات محلية يأتي في سياق الاستراتيجية الأميركية ذاتها، ولكن من دون أن يعني ذلك إبعاد قسد أو وحدات حماية الشعب التي هزمت داعش من المنطقة”، مضيفاً: “لكن قد تحتم التوافقات إعادة ترتيب شكل القوة العسكرية التي ستدير المنطقة، وذلك عبر مشاركة لاعبين محليين من خارج قسد فيها”. وأشار إلى أن “قسد قوة منظمة تضم إدارات وأطراً سياسية كبيرة تمثل الأطياف المجتمعية المتنوعة في شمال سورية وشرقها، ولهذا فمن غير الممكن إنضاج أي حلول سياسية في سورية من دون مشاركة هذه القوات ومظلاتها السياسية”.

العربي الجديد